|
إن صاحب هذه القصة أباح لنا عن مكنونات في صدره منذ أمد بعيد ، فأصر على رواية
قصته بنفسه قائلاً :
كنت بلغتُ من العمر عندها اثنين وعشرين عاماً ، تزوجت مبكراً ، ولدي الآن من
البنين ثلاثة ، ومن البنات أربع ، كنت أعيش مع والدي في بيت واحد ، أعمل بائعاً
في متجر والدي ، حيث كان يتاجر بالملابس الجاهزة ، فيدر علينا بعض المال نعيش
منه ، وبعد الزواج ذهبت باحثاً عن عمل يساعدني على الاستمرارية في الحياة ،
ويوفر لي معيشة كريمة ، وكان لي إخوة صغار يسكنون معنا في نفس البيت ، هذا ما
جعلني أجد في الطلب لأحصل على عمل ، فيسر الله – عز وجل – لي ما كنت أصبو إليه
وكنت أتقاضى أجرة ممتازة مقارنة مع غيري ، فتحسن وضعنا الاقتصادي ، وقمت ببناء
بيت مستقل عن والدي وإخوتي ، وكان هذا استجابة لرغبة زوجتي التي ألحت علي
كثيراً بالانفصال عن والديَّ وإخوتي الصغار ، فزوجتي – هداها الله – كانت تفتعل
مشاكل يومية مع والدتي وإخوتي الصغار لأتفه الأسباب .
وعلى كل حال انفصلنا عن العائلة ، فارتحت من المشاكل اليومية نوعاً ما ، لأنه
كان يؤلمني ما أسمعه من والدتي عما تقوم به زوجتي تجاهها ، رغم أني كنت أنصحها
بعدم إثارة أي إساءة تعكر خاطر والدتي ، إلا أنها كانت عنيدة ، وكانت دائماً
تظهر بصورة المظلومة وتبكي طويلاً إن حدثتها بهذا الأمر ، مدعيةً أنها تحسن
إليهم وهم يسيئون إليها .
الآن أصبحت أزور والديَّ وإخوتي الصغار كل أسبوع مرة ، بعدما كنت يومياً
بجوارهم ، فمنزلي الآن يبعد بعض الشيء عن منزل العائلة ، إلا أنني كنت أشعر
بسعادة تغمرني عند عزمي لزيارتهم ، فمشاغلي كثرت ، وهمومي تعددت ، إلا أنني
بقيت على هذا الحال وهذا أقل الواجب ، كانوا يسعدون بلقائي الأسبوعي ،
ويستقبلونني بكل ترحاب ، وأنا كذلك ، بل كان هذا اليوم حافزاً لي على العطاء
والتفاؤل والشعور بالنشوة المستمرة التي تتخلل جوانحي ، فيطيب لها قلبي ، لما
لا ؛ فهما أحق الناس بحسن صحبتي في هذه الدار ، ومرت الأيام وانقطعت عن العمل ،
وأخذت جاهداً في إيجاد بديل آخر عن هذا العمل ، كي أطلب رزقي ورزق أبنائي ، إلا
أن الفرص كانت قليلة ، وكان هذا أمر الله وما لنا إلا التسليم والرضى بقضاء
الله ، فنفقاتي ازدادت ، طعام وشراب وكسوة وطلبات الأبناء و الزوجة التي لا
ترضى بالقليل ، فهي تعيش الترف وتؤمن بالملذات دون النظر إلى حالنا وما وصلنا
إليه .
لقد أصبحنا اليوم نعيش الكفاف بكل ما تعنيه الكلمة – فالحمد لله – فلم تزدد إلا
إلحاحاً ، وأخذت تطلب ما يتعذر إحضار ه ، فأنا اليوم أجلب الضروريات بشق الأنفس
، أصبح البيت جحيماً لا يطاق ، زوجة بداخله لا تفهم إلا كلمة واحدة .. : " هات
... جيب ... بدنا ... بدي ... أريد ... أبي ... أبغي ... أرغب ... الخ " .
صبرت .... على مُرِّ القضاء ... فلا يستقيم إيمان عبد حتى يعلم أن ما أصابه لم
يكن ليخطئه ، وأن ما أخطئه لم يكن ليصيبه ... وكنت أتوجه إلى بيت العائلة ؛ حيث
الوالدين والإخوة ، وكانوا على اطلاع تام بمعيشتي ، كل شهر مرة واحدة ، وذلك
لانشغالي بهموم الحياة الأسرية ، أخذت الفجوة تزداد حتى فوجِئتُ يوماً بزوجتي
تصرخ في وجهي قائلة : طلقني .... طلقني .... طلقني .... طلقني .... طلقني ....
!!! .
بكل تأكيد ، أيقنت ولم يكن هذا مستغرباً ، أن المرأة لا تنكح لجمالها فحسب ....
لكن كلمتها لا تزال ترن بصداها في رأسي .... الأبناء يسمعون كلمتها وينظرون إلي
بعين حزينة ، ويطلبون من أمهم أن تكف عن كلامها وصراخها ... !! لم هذا يا أماه
.. ؟؟ فترد قائلةً بصوت مرتفع : يجلجل أركان البيت ، إليكم عني ، لا أم لكم ،
الحقوا بأبيكم الذي لا يوفر لكم رغيف الخبز إلا بشق الأنفس .... .
فكرت ملياً ؛ قلت في نفسي : إنني أخطأت الطريق منذ البداية ، تزوجتها جميلة ،
ولم أرع الدين فيها ، فأمي طالما ذكرتني ، ونصحتني بالظفر بذات الدين ، لقد
انتهى كل شيء الآن ... !! ، الأبناء أين يذهبون إن أجبتها .... ؟؟ ، إنه الضياع
والتشتت يمنة ويسرة ، فما أمامي إلا الصبر ، وقلت بأعلى صوتي : آه ... من تأوه
لا ينفع ... ومن عيون صارت كالعيون مما تدمع ... .
وعدت إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي طالما تجاوزته ، حيث قال : { ....
اظفر بذات الدين تربت يداك} ، حقاً إن يداي لم تنل شيئاً ، فأنا أقاسي ما جنيته
على نفسي ، في البداية كنت ألاقيها مرحة ، فالمال عندي وفير ، أما الآن فأصبحت
كالأفعى المحمومة تلدغ يمنة ويسرة .
تذكرت مقولة أمي ثانية : " يا ولدي إن الدين مع العمر
يزداد ، والجمال مع العمر ينقص ، فاحرص على ما يزداد ، ودعك مما ينقص "
، أصبحت أكابر نفسي ، وأعللها بالأماني خشية تصدع البيت ، وذهاب الأبناء من بين
يدي ، وأندم حيث لا ينفع الندم ، كنت أنظر إلى أطفالي ، فينفطر قلبي ، وتتدفق
عبراتي من غير استئذان ... فأقول : لا يوجد أمامي من سبيل سوى الصبر ، لأحفظ ما
تبقى من كيان بيتي ، فكرت بالزواج من غيرها ، إلا أنني لا أملك ما أتزوج به .
فأوصي كل من قرأ قصتي هذه ، أن يحذر من خضراء الدمن ، أبد الدهر ، إن الجمال
يغري ، والحسن يردي ، إن لم يصن بدين فأظفر بذات الدين تربت يداك ، وهذه جولتي
وإياكم ، وما جال في خاطري أكبر من ذلك ، وقليل من الإشارة ، يغني عن كثير من
العبارة.
و كتبها أ.اسماعيل ربعي