تابع لطرق التخريج بحسب الراوي الأعلى

الفصل الرابع:

التخريج من طريق العلل المُرَتَّبة على الراوي الأعلى.

وهو في ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: التعريف بالعلل.

المبحث الثاني: التعريف بكتاب العلل للإمام الدارقطني.

المبحث الثالث: طريقة الوصول إلى الحديث فيه.

المبحث الأول: التعريف بالعلل:

المطلب الأول: معنى العلل.

لغة: العلة في أصل اللغة لها عدة معان، منها:

1- السبب، وما يشغل الإنسان، من عائق، ومرض وما يُتلهى به، قال ابن الأعرابي: "علّ الرجل يَعلِ من المرض"[1]، وقال الخليل: "العِلة: حدث يشغل صاحبه عن وجهه"[2]، وقال الجوهري: "العِلّة: المرض، أو حدث يشغل صاحبه عن وجهه"[3]، وقال أيضاً: "عَلَّلَه بالشيء، أي: لهاه به كما يُعَلَّل الصبي بشيء من الطعام"، وقال الفيروزآبادي: "العِلَّةُ: المرض، وعِلّته: سببه، فهو مُعل وعَليل، ولا تقل مَعْلُول"[4].

2- الشُرب الثاني: قال الأصمعي: "إذا وردت الإبل الماء فالسقية الأولى: النَّهل، والثانية: العَلَل"[5].

ومناسبة المعنى الأول للمعنى الاصطلاحي ظاهرة، وأما مناسبة المعنى الثاني، فهي من جهة أن المحدث يعيد النظر في الحديث مرة بعد مرة حتى تتبين له العِلة.

اصطلاحاً: جاء معنى العلّة في الحديث متقارباً بين أهل هذا الفن، ومن ذلك قول ابن الصلاح: "الحديث المعلَّلُ ما اطُّلِع فيه على عِلّة تقدح في صحته، مع ظهور السلامة"[6].

ومن أجمع العبارات ما عرّف به الحافظ السيوطي العلّة، فقال: "العلة عبارة عن سبب غامض خفي قادح، مع أن الظاهر السلامة منه، ويتطرق إلى الإسناد الجامع شروط الصحة ظاهراً"[7]، وقال: "وقد تُطلق العِلة على غير مقتضاها الذي قدّمناه، ككذِب الراوي، وغفلته، وسوء حفظه، ونحوها من أسباب ضعف الحديث"[8].

المطلب الثاني: أنواع المؤلفات في العلل:

المؤلفات في بيان علل الحديث نوعان، هما:

الأول: مؤلفات رُتبت فيها العلل بحسب الأبواب والموضوعات، وهذا النوع يتعلق بطريقة التخريج بحسب المتن، وليست مرادة في هذه الدراسة.

الثاني: مؤلفات رُتبت فيها العلل على الراوي الأعلى، وهذا النوع هو المقصود هنا.

ومن أشهر المؤلفات فيه:

1- العلل الكبير - أو: العلل المفرد - للإمام الترمذي، وهو مرتب بحسب الراوي الأعلى، وقد قام بترتيبه على الأبواب أبو طالب: محمود بن علي القاضي - ت 585ﻫ -.

2- التتبع للدارقطني، حيث ساق فيه ما أُخرج في الصحيحين وله علة، ورتبه بحسب الراوي الأعلى.

3- العلل للدارقطني وسيأتي - إن شاء الله -[9].

المطلب الثالث: أهميتها:

معرفة علل الحديث والتأليف فيها من أجل أنواع علوم الحديث وأشرفها وأدقها، لأثرها في رد الأحاديث أو قبولها، وهو من أصعب أنواع علوم الحديث، يقول الحافظ ابن حجر: "هذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً، ولا يقوم به إلا مَن منحه الله تعالى فهماً غايصاً وإطلاعاً حاوياً وإدراكاً لمراتب الرواة، ومعرفة ثاقبة"[10]، ومن ثم فقد اكتسبت المؤلفات في العلل أهمية كبرى، يكاد لا يستغني عنها المحدث والباحث.

المبحث الثاني: التعريف بكتاب العلل للإمام الدارقطني:

التعريف بالإمام الدارقطني:

هو: علي بن عمر بن أحمد الدارقطني الشافعي، أبو الحسن، ولد سنة 306ﻫ.

روى عن: إبراهيم بن حماد بن إسحاق الأزدي - ت323ﻫ -، وأحمد بن العباس بن أحمد البغوي - ت 322ﻫ -، وأحمد بن محمد بن سعيد ابن عقدة - ت 332ﻫ -.

وروى عنه: تمام بن محمد الرازي - ت 414ﻫ -، وأبو بكر:أحمد بن محمد البرقاني - ت 425ﻫ-، وحمزة بن يوسف السهمي - ت 427ﻫ -، وأبو نُعيم: أحمد بن عبد الله الأصبهاني - ت 430ﻫ -.

وقد انفرد بالإمامة في علم الحديث في وقته، فهو حافظ زمانه وأستاذ العلل، قال الخطيب البغدادي: "كان فريد عصره، وقريع دهره ونسيج وحده، وإمام وقته، انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بعلل الحديث"[11]، وقال ابن كثير: "الحافظ الكبير، أستاذ هذه الصناعة"[12]، وتوفي سنة 385ﻫ.

التعريف بكتابه العلل:

أولاً: اسم الكتاب: العلل الواردة في الأحاديث النبوية.

ثانياً: موضوعه: الأحاديث المعلة مرتبة على الراوي الأعلى.

ثالثاً: توثيق نسبته إلى مؤلفه: يعتبر كتاب العلل من تأليف الإمام الدارقطني، حيث إنه هو المبين لعلل الأحاديث المذكورة فيه، كما أن ترتيبه على هذا النحو كان بإذنه، حيث اسـتأذنه تلميذه أبو بكر البرقاني في ترتيب كلامه المذكور على حسب الراوي الأعلى، وهذا لا يؤثر في ثبوته للإمام الدارقطني، ولذلك نظائره من كتب المصادر العلمية المعدودة من تواليف أصحابها المجموعة بإذنهم ومعرفتهم، فيشبه عمل الجامع والمرتب لها - والحالة هذه - صنيع الوراق.

ومما يؤكد أنه للدارقطني أيضاً كون البرقاني - المرتب له - قد قرأه عليه، فأقره، والحجة في ذلك ما ثبت بإسناد صحيح، حيث قال الخطيب البغدادي: "سألت البرقاني، قلت له: هل كان أبو الحسن الدارقطني يملي عليك العلل من حفظه ؟ فقال: نعم، ثم شرح لي قصة جمع العلل، فقال: كان أبو منصور بن الكرجي يريد أن يصنف مسنداً معللاً، فكان يدفع أصوله إلى الدارقطني فيعلم له على الأحاديث المعللة، ثم يدفعها أبو منصور إلى الوراقين فينقلون كل حديث منها في رقعة، فإذا أردت تعليق الدارقطني على الأحاديث نظر فيها أبو الحسن ثم أملى عليَّ الكلام من حفظه، فيقول: حديث الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود الحديث الفلاني، اتفق فلان وفلان على روايته، وخالفهما فلان، ويذكر جميع ما في ذلك الحديث، فأكتب كلامه في رقعة مفردة، وكنت أقول له: لم تنظر قبل إملائك الكلام في الأحاديث ؟ فقال: أتذكر ما في حفظي بنظري، ثم مات أبو منصور، والعلل في الرقاع، فقلت لأبي الحسن بعد سنين من موته - يعني موت أبي منصور - إني قد عزمت أن أنقل الرقاع إلى الأجزاء وأرتبها على المسند، فأذن لي في ذلك وقرأتها عليه من كتابي ونقلها الناس من نسختي"[13].

وعند ترجمة أبي منصور: إبراهيم بن الحسين الصيرفي المعروف بابن الكرجي، قال الخطيب أيضاً: "أراد أن يصنف مسنداً معللاً، فكان أبو الحسن الدارقطني يحضر عنده في كل أسبوع يوماً، ويصلح الأحاديث في أصوله، وينقلها شيخنا أبو بكر البرقاني، وكان إذ ذاك يورق له ويملي عليه أبو الحسن عِلل الأحاديث، حتى خَرَّج من ذلك شيئاً كثيراً، وتوفي أبو منصور قبل استتمامه، فنقل البرقاني كلام الدارقطني ورتّبه على المسند، وقرأه على أبي الحسن وسمعه الناس بقراءته، فهو كتاب العلل الذي دوّنه الناس عن الدارقطني"[14].

فهذه قصة تأليف كتاب العلل للدارقطني الدالة على ثبوته له، وقد أثبته له أيضاً غالب أئمة هذا الشأن ممن ترجم للدارقطني، وذكروا مؤلفاته، أو رووها في برامجهم وأثباتهم، فصنيع المخالف -والحالة هذه - محل تأمل.

رابعاً: مكانته العلمية:

يعتبر كتاب العلل للدارقطني من أجمع المؤلفات في العلل وأجودها، يقول الذهبي: "إن شئت أن تبين براعة هذا الإمام الفرد، فطالع العلل له فإنك تندهش ويعلو تعجبك"[15]، ويقول الحافظ ابن كثير: "جمع أزمّة ما ذكرناه[16] كله الحافظ الكبير أبو الحسن الدارقطني في كتابه في ذلك، وهو من أجل كتاب بل أجل ما رأيناه وضع في هذا الفن، لم يسبق إلى مثله وقد أعجز من يريد أن يأتي بشكله فرحمه الله وأكرم مثواه"[17]، وذكر السخاوي: "أنه أجمعها"[18].

خامساً: مشتملاته:

اشتمل علل الدارقطني على الأحاديث المعلة المرفوعة والمرسلة والموقوفة والمقطوعة وغيرها، وعلى أقوال الإمام الدارقطني في بعض الرواة، وقد أفرد لها محقق الكتاب فهرساً خاصاً، في آخر كل مجلد.

سادساً: طريقة ترتيبه:

1- رتب الدارقطني كتابه على مسانيد الصحابة، كطريقة كتب المسانيد المعروفة، وجعل مسانيد الصحابة قسمين: الأول: الرجال، والثاني: النساء، وقدم في الرجال مسانيد العشرة المبشرين بالجنة - رضوان الله عليهم -.

2- رتب مرويات المكثرين من الصحابة، على تراجم التابعين، حيث جعل مرويات كل راو على حدة.

3- أما كلام الدارقطني - في بيان العلل - فبُدِئ بذكر ما يؤيد رواية الحديث الواردة في السؤال الموجه إليه، والتي غالباً ما تكون رواية الوصل أو الرفع أو الرواية المطولة، ونحو ذلك مما يوافق الجادة، ثم تُذكر أوجه اختلاف الرواة من إرسال ووقف وغيرهما من صور علل الحديث المتعددة، ثم يبان الصواب من ذلك.

4- تساق متون الأحاديث في سؤال السائل بلفظ مختصر أو بما يدل على موضوعها غالباً، وتكون إجابة الدارقطني مترتبة على ما في السؤال بحيث يقتصر الدارقطني على ذكر أوجه اختلاف الرواة في الحديث، دون ذكر ألفاظ المتن، إلا عند الحاجة.

سابعاً: طريقته في تخريج الحديث:

يعزو الدارقطني الأحاديث إلى رواتها، وقد يسوقها بإسناده، ويرتب الجميع بحسب الراوي الأعلى.

ثامناً: جهود المحققين في العناية به:

اعتنى الدكتور محفوظ الرحمن زين الله السلفي بتحقيق كتاب علل الدارقطني وتخريج أحاديثه، وطَبع منه عدة مجلدات، وأعد في نهاية كل مجلد فهارس متعددة، منها: فهرس للأحاديث والآثار حسب أوائل ألفاظها على حروف المعجم، وفهرس لهما على أبواب الفقه، وفهرس لأصحاب المسانيد بحسب حروف المعجم، وفهرس للصحابة المذكورين ضمناً بحسب حروف المعجم، وفهرس للرواة عن كل صحابي بحسب حروف المعجم.

المبحث الثالث: طريقة الوصول إلى الحديث فيه:

يشق الوصول إلى الحديث في كتاب العلل عند البحث فيه مباشرة، لأنه مرتب بحسب الراوي الأعلى دون مراعاة الترتيب المعجمي، مما يدعو إلى استخدام الفهارس التي أعدها محقق الكتاب في آخر كل مجلد، بحيث يستفاد من معرفة اسم صحابي الحديث المُخَرِّج في معرفة موضع مروياته فيه، مثل حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في المسح على النعلين، حيث يستفاد من اسم الصحابي وهو هنا: المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فيتوصل إلى موضع مروياته من خلال فهارس المحقق، وهو موجود في المجلد السابع، ص 96، برقم (1235)، ولما كان الحافظ الدارقطني يذكر المرويات بدون إسناد في الغالب، فإن العزو إليه يكون بعبارة مشعرة بذلك كأن يقال: (ذكره الدارقطني)، أو: (أورده)، وإن ساق إسناده فيقال: (أخرجه)، أو: (رواه)، أو: (خَرَّجه).

الفصل الخامس:

التخريج من طريق غريب ألفاظ الحديث المرتب على الراوي الأعلى.

وهو في ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: التعريف بغريب ألفاظ الحديث.

المبحث الثاني: التعريف بكتاب: غريب الحديث للإمام الحربي.

المبحث الثالث: طريقة الوصول إلى الحديث فيه.

المبحث الأول: التعريف بغريب ألفاظ الحديث:

المطلب الأول: معناه:

لغة: الغريب من الغربة، وهي البعد عن الناس، قال الجوهري: "الغربة: الاغتراب، تقول فيه: غرب، واغترب بمعنى، فهو: غريب... والغرباء: الأباعد"[19]، وقال ابن منظور: "الغرب: الذهاب والتنحي عن الناس"[20].

اصطلاحاً: هو: ما يغمض معناه من ألفاظ المتون، قال أبو سليمان: حمد بن محمد الخطابي - ت 388ﻫ -: "الغريب من الكلام إنما هو الغامض البعيد عن الفهم"[21] وقال أيضاً: "... يراد به بعيد المعنى غامضه، لا يتناوله الفهم إلا عن... معاناة  فكر"[22]، ويقول الصنعاني: "هو ما يخفى من ألفاظ المتون"[23].

المطلب الثاني: أهميته:

يعتبر هذا الفن من العلوم التي يُحتاج إليها في معرفة معاني الأحاديث، حيث يترتب عليه الحكم على المتن من جهة، واستنباط الأحكام منه من جهة أخرى، وهو صـورة من صور شرح الحديث فيحتاج إلى علم واسع بهذا الفن مع التحري والدقة، فقد سئل الإمام أحمد: عن حرف من غريب الحديث، فقال: "سلوا أصحاب الغريب، فإني أكره أن أتكلم في قول الرسول صلى الله عليه وسلم بالظن فأخطئ"[24]، ويقول ابن الصلاح: "الخوض فيه ليس بالهين، والخائض فيه حقيق بالتحرى، وجدير بالتوقي"[25].

هذا وتعد مجموعة من كُتب شرح الغريب، من المصادر الحديثية الأصيلة، حيث إن أصحابها يسوقون فيها المرويات بأسانيدهم، مثل: كتب أبي عبيد، والحربي، والخطابي، وغيرهم.

المطلب الثالث: أنواع المؤلفات فيه:

ألّف أهل الحديث واللغة في شرح غريب الحديث مؤلفات عدة، وهي من جهة ترتيبها، على أنواع ومنها:

الأول: كُتب شرح غريب ألفاظ الحديث المرتبة بحسب المتن وهذا النوع ليس بالمقصود هنا، لأنه متعلق بطريقة أخرى من طرق التخريج.

الثاني: كتب شرح غريب ألفاظ الحديث المرتبة بحسب الراوي الأعلى للمتن.

وهذا النوع هو المقصود هنا، ومنه: كتاب غريب الحديث لأبي عبيد: القاسم بن سلاَّم  -ت 224ﻫ -، وغريب الحديث للإمام الحربي - ت 285ﻫ -، وغريب الحديث للخطابي.

المبحث الثاني: التعريف بكتاب: غريب الحديث للإمام الحربي[26]:

التعريف بالإمام الحَرْبي:

هو: إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم الحَرْبي، أبو إسحاق، وهو ينسب إلى قرية تسمى: الحَرْبية بالقرب من بغداد قاله الخطيب البغدادي[27]، ولد سنة 198ﻫ.

روى عن: سعيد بن منصور صاحب السنن - ت227ﻫ -، وأبي بكر: عبد الله بن محمد ابن إبراهيم بن أبي شيبة - ت 235ﻫ -، والإمام أحمد بن حنبل - ت241ﻫ -.

وروى عنه: الحسين بن إسماعيل المَحَاملي - ت 330ﻫ -، و أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك البغدادي القَطِيعي - ت 368ﻫ -.

وهو: إمام عالم بارع في فنون شتى، قال الدارقطني عنه: "كان إماماً، وكان يقاس بأحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه"[28]، وقال الخطيب البغدادي عنه: "كان إماماً في العلم"[29]، وقال الذهبي عنه: "الإمام الحافظ العلامة شيخ الإسلام"[30]، وتوفي سنة 285ﻫ.

التعريف بكتابه غريب الحديث:

أولاً: موضوعه: الألفاظ الغريبة مخرجة بحسب الراوي الأعلى.

ثانياً: مكانته العلمية:

يعتبر كتاب غريب الحديث من أشهر مؤلفات الإمام الحربي، فقد جمع فيه من طرق الأحاديث ومتونها ما جعله متميزاً بين المؤلفات في هذا الشأن، يقول ابن الأثير: "هو كتاب كبير ذو مجلدات عدّة جمع فيه وبسط القول وشرح واستقصى الأحاديث بطرق أسانيدها، وأطال بذكر متونها وألفاظها، وإن لم يكن فيها إلا كلمة واحدة غريبة فطال لذلك كتابه، وبسبب طوله ترك وهجر، وإن كان كثير الفوائد جم المنافع"[31].

وكأن ابن الأثير يشير إلى أن للإطالة بذكر الطرق والألفاظ مصادر خاصة، ويُسلّم لابن الأثير هذا المأخذ من جهة الفن المتعلق بشرح غريب ألفاظ الحديث، لكن صنيع الإمام الحربي ألحق كتابه من جهة أخرى بالمصادر الحديثية الأصيلة التي يحتاجها المشتغل بفن علم تخريج الحديث، فتميز بذلك على غيره من المؤلفات في شرح غريب ألفاظ الحديث، المجردة عن الإسناد.

ثالثاً: مشتملاته:

1- اشتمل على الحديث المرفوع والموقوف والمقطوع وغيرها من أقوال العلماء، مروية بالإسناد، وأثرى كتابه بطرق وألفاظ متون الأحاديث.

2 - اشتمل في مواضع كثيرة على ما يتعلق بشرح غريب القرآن، وقراءاته، وذِكْر أسباب النزول واختلاف المفسرين[32].

3 - اشتمل على ما يتعلق بعلوم اللغة والنحو[33].

رابعاً: طريقة ترتيبه:

رتب الإمام الحربي الألفاظ الغريبة في الأحاديث على الراوي الأعلى، بحسب طريقة المسانيد، وذلك كما يلي:

1- رتبه بحسب مسانيد الصحابة، مبتدئاً بالأربعة الخلفاء، ثم بعدد من العشرة المبشرين بالجنة.

2 - قسّم مسند الصحابي إلى أحاديث، مبوباً على ذلك فيقول: "الحديث الأول... الثاني" وهكذا.

3 - بوب بعد ذلك بأصول الألفاظ الغريبة، وقد رتبها بحسب الحرف الأول على المخارج[34] بحيث يقدم أبعد الحروف مخرجاً في الحلق.

4- رتب كل لفظة من ذلك على التقاليب، مثل قوله: "غريب ما روى أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث الأول: باب خف - ثم -، باب خوف - ثم -، باب خفى، - ثم - باب أخفى، -ثم-، باب فخ".

5- رتب الأخبار في كل باب، بتقديم المرفوع، ثم الموقوف، ثم المقطوع.

خامساً: أهم مميزاته:

1- إسناده الأحاديث والآثار التي يوردها، وبذلك صار في عداد المصادر الحديثية الأصيلة.

2 - يسوق المتون المكررة والمقطعة من عدة طرق في الغالب.

سادساً: طريقة تخريجه للحديث: يروي الحديث بإسناده بحسب الألفاظ الغريبة، مرتباً على الراوي الأعلى.

سابعاً: جهود المحققين في العناية به:

لم يظفر حتى كتابة هذا البحث إلا بالمجلدة الخامسة "من بقية حديث عمررضي الله عنه، باب سجر، إلى باب عقل من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه" وهي التي حققها الدكتور: سليمان بن إبراهيم العايد ونال بها العالمية في اللغة، وقد خرجت أحاديثها المرفوعة في رسالتي للدكتوراه في السنة وعلومها.

ويصعب الوصول إلى البغية عند التعامل مع الكتاب مباشرة، لأنه مرتب بطريقة علمية دقيقة جداً تحتاج إلى خبرة في منهج الترتيب عند المحدثين، وعند متقدمي أهل اللغة، ولهذا يحتاج الكتاب إلى مداخل وفهارس تقرب مادته العلمية، وقد قام الدكتور سليمان العايد بإعداد فهارس متنوعة، منها: فهرس للآيات، وفهرس لأصول ألفاظ الغريب التي شرحها الإمام الحربي، كما قمت بإعداد فهارس متعددة، منها فهارس تتعلق بالأحاديث، مثل: فهرس أوائل ألفاظ الأحاديث، وفهرس ألفاظ متونها، وفهرس أبواب الفقه، وفهرس رواة الأحاديث، بحيث تُعرف به مرويات كل راو.

المبحث الثالث: طريقة الوصول إلى الحديث فيه:

يكاد يُعتبر العثور على حديث في كتاب الحربي مباشرة عسيراً جداً، مما لا بُد أمامه من اللجوء إلى الفهارس المُقربة له، كما سبق آنفاً، ومثال ذلك: ما رواه الهيثم بن عمران عن عطية ابن قيس، عن الأزرق بن قيس أنه قال: "رأيت ابن عمر يعجن في الصلاة، ويعتمد على يديه إذا قام، فقلت له، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله"، فهذا الحديث يمكن الوصول إليه في كتاب الحربي من طريق الفهرس الذي أعْدَدته بأسماء الرواة، في آخر رسالتي المذكورة سابقاً، فأذكر عند كل راو أحاديثه فيه، وهذا الحديث مذكور في مرويات عبد الله بن عمر برقم 306، وبينت هناك أنه في ص 525 من المطبوع، وهو مذكور أيضاً في مرويات الهيثم، وعطية، والأزرق، كما يمكن معرفة موضعه في الكتاب من خلال أول لفظه، أو من خلال أية لفظة منه بحسب حالها مثل لفظة: (يعجن) فهي في حرف الياء، أو من خلال موضوعه، فإذا تم العثور على الحديث في الكتاب، فيُعزى إليه بقول: أخرجه، أو: رواه، أو: خَرَّجه الحربي في غريب الحديث، إذ يعتبر كتابه من المصادر الحديثية الأصيلة.

الفصل السادس:

التخريج من طريق الفهارس والموسوعات المُرَتّبة على الراوي الأعلى.

لقد عُني أهل العلم بالفهارس والمداخل المقربة لمادة المصادر العلمية، فمنهم من أعدّ فهارس بحسب الإسناد، وأعد آخرون فهارس بحسب المتن، والمقصود منها هنا الفهارس المرتبة بحسب الراوي الأعلى وهي تابعة للفهرسة بحسب الإسناد.

وظهرت عنايتهم تلك في عدة صور، فمنها فهارس خاصة بمصدر واحد، بحيث تلحق في أواخر المصدر المطبوع، كجزء من عمل محقق الكتاب أو ناشره، وكما تفرد هذه الفهارس بكتب مستقلة، وتفصيل الحديث عن هذا النوع من الفهارس إنما يكون في المصادر المتعلقة به.

وهناك فهارس ومداخل شاملة لعدة مصادر بحيث تشبه الموسوعات، أو تعد منها، ومنها:

1 - كتاب: جمع الجوامع أو الجامع الكبير، للعلامة عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي - ت 911ﻫ -، وقد اشتمل على أحاديث وآثار ما يزيد عن ثمانين مصدراً من المصادر الأصيلة، ومنها مسانيد: الحـُميدي، والطيالسي، وأحمد، وأبي يعلى، وعَبْد بن حُميد، وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، والفردوس، والأحاديث المختارة للضياء المقدسي، ومعاجم الطبراني الثلاثة، وغيرها.

وقد قسّم السيوطي كتابه قسمين:

الأول: الأحاديث القولية، مثل: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"، ورتب هذه الأحاديث بحسب أوائل ألفاظ متونها على حروف الهجاء، وهذا القسم ليس بالمقصود في هذا البحث، لأنه متعلق بطريقة أخرى من طرق التخريج.

الثاني: الأحاديث الفعلية المحضة أو المشتملة على قول وفعل أو سبب أو مراجعة أو نحو ذلك، مثل ما روى أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهدى جملاً "، ورتبها بحسب الراوي الأعلى، وابتدأه بمسانيد الصحابة، ليدخل في ذلك المرفوع والموقوف، وقدم فيها الرجال على النساء، ثم أتبعها بالتابعين وكذلك خصصه بالمراسيل، وابتداء الرجال بالعشرة المبشرين بالجنة، ثم ببقية أسماء الصحابة على حروف المعجم، ثم بأصحاب الكنى، ثم بالمبهمين، وجعل كل نوع من هذه الأنواع مستقلاً ومرتباً، وكذا صنع في قسم  النساء لكنه لم يبدأ بأمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، وفي كل ذلك يعزو الحديث إلى اسم مصدره فقط عزواً إجمالياً، مستخدماً العلامات التي وضعها لها.

2 - المسند الجامع لأحاديث الكتب الستة ومؤلفات أصحابها الأخرى. لمجموعة من الباحثين منهم: الدكتور بشار عواد معروف، واشتمل على أحاديث (21) مصدراً، منها: الكتب الستة ومسانيد: الحـُميدي، وأحمد، وعَبْد بن حُميد، وغيرهم، وقد رتب المؤلفون أحاديث كل صحابي على حدة، ورتبوا أسماء الصحابة على حروف الهجاء، ثم رتبوا أحاديث كل صحابي على الأبواب، وجعلوا للرجال قسماً مستقلاً، ابتدأوه بالأسماء، ثم بالكنى، ثم بالأبناء، ثم بالمجهولين، وكذا النساء.

وقد أوردوا الحديث بإسناده الموجود في مصادره، على طريقة الأطراف مع بيان موضع الحديث في هذه المصادر.

3 - معجم مسانيد كتب الحديث، لأبي الفداء: سامي التُوني، وهو فهرس على الراوي الأعلى لمسانيد الحـُميدي، والطيالسي، وأحمد، وأبي يعلى، وعَبْد بن حُميد، ومسند الشاشي، ومعجم الطبراني، تحفة الأشراف للمزي، وجمع الجوامع للسيوطي.

وقد رتبه المؤلف على الراوي الأعلى، حيث يشمل الصحابة والتابعين وغيرهم، لأن المِزي في تحفة الأشراف، قد أفرد قسماً خاصاً للمراسيل رتبهم على حسب أسماء المرسلين، فأدخل صاحب الكتاب هذه الأسماء في معجمه هذا، وقسم معجمه قسمين: قسم للأسماء وما يلحق بها، وقسم للكُنى، وأورد في قسم الأسماء: الرجال والنساء والمبهمين دون فصل، وأورد المبهمين على منهج أصحاب المصادر السابقة التي اشتمل عليها، فأصحاب المسانيد على سبيل المثال يترجمون على حكاية الرواة مثل القول: "رجل أو رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيأتي صاحب معجم المسانيد، ويورد ذلك في حرف الراء، وكذا إذا ترجم أصحابُ المسانيد بقولهم: "بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فصاحب المعجم يضع ذلك في حرف الباء.

هذه هي طريقة فريق من أصحاب المسانيد، وأما المِزي في كتابه: تحفة الأشراف، فقد رتب المبهمين على الرواة عنهم مثل قوله: "عطاء بن  يزيد عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فيأتي صاحب هذا المعجم ويجعل ذلك في حرف العين، تبعاً لطريقة المِزي في هذه الحالة.

وقد رتب التُوني أسماء الرواة عن الراوي الأعلى - عند موضعه - على حروف المعجم تبعاً لمسند حديث الطيالسي، حيث رتب مرويات الراوي الأعلى المكثر على التراجم، ومن أمثلة ذلك: صنيع التُوني عند حرف العين، حيث أورد فيه: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وبيّن مواضع حديثه في المصادر التسعة التي فهرسها هذا المؤلف، ثم أورد بعده ما يلي:

عبد الله بن عباس (موقوفاً)، وعبد الله بن عباس (عنه: أبو البختري)، وعبد الله بن عباس (عنه: التميمي)، وعبد الله بن عباس (عنه: جابر بن زيد)، وهكذا، مرتباً الرواة عن الراوي الأعلى بحسب ما اشتهروا به من كنية أو لقب أو نسبة أو نحو ذلك، كما يعزو الحديث إلى المصدر مع بيان موضعه فيه.

 



[1] كما في تهذيب اللغة للأزهري، مادة العل 1/107.

[2] كما في معجم مقاييس اللغة لابن فارس، مادة العل 4/13.

[3] الصحاح، مادة 5/1774.

[4] القاموس المحيط: مادة العَلُّ.

[5] كما في تهذيب اللغة، مادة العل 1/107.

[6] علوم الحديث، ص: 81.

[7] تدريب الراوي 2/295.

[8] المصدر نفسه 2/302.

[9] ص: 116.

[10] النكت على علوم الحديث 2/711.

[11] تأريخ بغداد 12/34.

[12] البداية والنهاية 11/317.

[13] تأريخ بغداد، عند ترجمة الدارقطني 12/35.

[14] (6/59).

[15] تذكرة الحفاظ 3/993.

[16] يعني في العلل.

[17] اختصار علوم الحديث 1/198.

[18] فتح المغيث 2/334.

[19] الصحاح 1/191.

[20] اللسان، مادة غرب 1/638.

[21] غريب الحديث 1/70.

[22] (1/71).

[23] توضيح الأفكار (2/412).

[24] كما في علل الميموني 413.

[25] علوم الحديث 272.

[26] تميز هذا الكتاب على غيره من كتب الغريب باشتماله على كثير من أسانيد الحديث وطرقه، ولهذا اختير هنا.

[27] تأريخه 6/27.

[28] كما في تأريخ بغداد 6/40.

[29] تأريخه 6/28.

[30] سير أعلام النبلاء 13/356.

[31] النهاية 1/6.

[32] انظر: ص: 24، 74، 86، 88، 128، 137، وغيرها.

[33] انظر: ص 53، 149، 299، 471، وغيرها.

[34] وهي إحدى طرق اللغويين في التصنيف.