|
أعجب ما لفت نظري في سيرة النووي رحمه الله تعالى كثرة تصانيفه ، وبركة مؤلفاته
مع قصر عمره ، فقد عاش رحمه الله تعالى ست وأربعين سنة وترك من المؤلفات مالو
قُسّم على سنيّ حياته لكان نصيب كل يوم كراستين ، مع أنه لم يبدأ في طلب العلم
إلا في سن الثامنة عشرة ، أضف إليها عشر سنوات لم يكتب فيها شيء من التصانيف ،
ثم رحل وهو لم يتجاوز السادسة والأربعين من عمره . لقد أتم في حياته ستة وعشرين
مؤلفاً على رأسها شرح صحيح مسلم ، والمنهاج ، ورياض الصالحين ، والأربعين
النووية ، وهذه الكتب لجلالة قدرها ورفيع منزلتها ، وعظيم شأنها سارت بها
الركبان مشرقة ومغربة ، ولا يعرف طالب علم فضلاً عن عالم أن لا يكون في تحصيله
هذا التراث الذي تركه النووي رحمه لله تعالى ، ناهيك عن كتب كثيرة لا تسع هذه
الصفحات لذكرها كاملة وهي عطر في رأس عروس .
ما أود أن أقوله في هذا المقام أن هذه البركة في حياة هذا الإمام لم تكن عبثاً
، ولا قدراً مجرداً ، كلا ! وإنما كانت نتيجة أسباب خاضها النووي بنفسه ، فلقي
ثمارها عاجلاً .
إن قدر الله تعالى ورحمته أوسع لحاف للمتدثرين بستره ، لكن سنن الله تعالى التي
لا تتغيّر ولا تتبدّل تبين : أن هذه المقامات لها أسباب ، وهذه الفتوحات لها ما
لها من الأسرار ، وتلك البركة خلفها خبايا صالحات .
وإذا أردت أن تعرف ذلك حقيقة فإليك بعضاً من سيرة هذا العلم ، وعبادته رحمه
الله تعالى : قال تلميذه ابن العطار : كان كثير التلاوة ، كثير الذكر لله تعالى
، وقال رحمه الله : ذكر لي صاحبنا أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح البعلي
الحنبلي الفاضل نفع الله له في حياة الشيخ رحمه الله قال : كنت ليلة في آخر
الليل بجامع دمشق ، والنووي واقف يصلي إلى سارية في ظلمه وهو يردد قوله تعالى :
" وقفوهم إنهم مسؤولون " مراراً بحزن وخشوع حتى حصل عندي من ذلك شيء الله أعلم
به . اهـ وقال ابن كثير : كان يصوم الدهر . اهـ وقال اليافعي : كان كثير السهر
في العبادة والتلاوة والتصنيف . اهـ وقال الذهبي : وكان مع تبحره في العلم
رأساً في الزهد وقدوة في الورع ... وقال رحمه الله : كان عديم الميرة والرفاهية
والتنعّم مع التقوى والقناعة والورع الثخين ، والمراقبة لله في السر والعلانية
، وترك رعونات النفس من ثياب حسنة ، ومأكل طيب ، وتجمّل في هيئة . اهـ كان من
شدة ورعه لا يأكل من فاكهة دمشق ، وسأله تلميذه ابن العطار عن ذلك فقال : إنها
كثيرة الأوقاف والأملاك . اهـ قال الذهبي : ولَيَ دار الحديث وكان لا يتناول
شيئاً من معلومها ، بل يقنع بالقليل مما يبعث به إليه أبوه ، وكان لا يأخذ من
أحد شيئاً ، ولا يقبل إلا ممن تحقق دينه ومعرفته . اهـ قلت : أما سر عجبي عن
كثرة هذه التصانيف وبركتها مع قصر عمره فقد انقضى بهذه الأسطر ، وأرجو أن تكون
أنت أيها القارئ الكريم ممن قضت وطرك هذه الأسطر ، وأفصحت عن سر هذه البركة .
ومن عرف الطريق وصل ، ومن تجمّل لله تعالى في السر نال ما تمنى ، وما تخلّف إلا
مغبون ! وما ضاع في جنبات الطريق إلا محروم ..
وليت شعري من يدرك هذه الطريق ؟! ومن يسعى في تتبع آثار القوم ؟ ! فليس بينك
وبين الفالحين إلا هذه الخطوات . والله المستعان !
مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
Mashal001@maktoob.com