منهج دراسة التصوف |
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه |
ومنه يتبين أن الإسلام في أصوله وأحكامه وخصائصه ثابت لا يتغير، والمنتسبون إليه يتغيرون ويختلفون، فمنهم الكامل، ومنهم دون ذلك، ومنهم المفرط، ومنهم من ليس له من الإسلام إلا الاسم. وهكذا كل ملة ونحلة قد ثبتت أصولها واستقرت: لا تتغير. وأهلها يتغيرون ويتفاوتون بحسب تطبيقهم لأصولها وفروعها. والتصوف فكرة ونحلة وملة قديمة، موجودة قبل الإسلام، أصولها وأحكامها معروفة مستقرة ثابتة، بإقرار كافة الباحثين، من متصوفة وغير متصوفة ومستشرقين، والمنتسبون إليه منهم المتحقق بالتصوف، ومنهم دون ذلك، ومنهم من ليس له إلا الاسم دون الحقيقة. وبناء على هذا: إن أردنا التعرف على دين أو نحلة أو فكرة ما، فعلينا أن نعتمد مصادرها التي منها نبعت وظهرت واستقرت، منها نفهم حقيقة الفكرة كما هي، ولا يصح أن نلجأ إلى المنتسبين فنعتمدهم مصدرا، إذ يتفاوتون في الالتزام والتحقق، كما يندر أن تكون جميع حركاتهم مردها اتباع قواعد الفكرة: - فالإسلام مثلا: لا تعرف حقيقته كما هي إلا من خلال القرآن والسنة، أما محاولة معرفة ذلك من خلال ما يصدر من المسلمين فهو محض الخطأ، فليسوا كلهم يطبقون الإسلام كما هو، وليس كل ما يصدر منهم فبالضرورة يكون عن تطبيق لتعاليم الإسلام، إذ الإنسان في طبعه اقتراف الحسنة والسيئة. - وكذلك التصوف لا يمكن معرفة حقيقته كما هي إلا بالوقوف على مصادره الأصلية، وهو الذي نشأ وتأسس واستقر في الثقافات القديمة، بشهادة كافة الباحثين، أما الاعتماد على المنتسبين المقلدين من المسلمين فخطأ منهجي، فليسوا كلهم يطبقون التعاليم كما هي، وليس كل ما يصدر منهم فبالضرورة يكون عن التزام بالتصوف. إن أكبر خطأ في دراسة التصوف: أن ينظر إلى الإمام الصوفي في الإسلام على أنه فكرة صوفية في كل ما يصدر عنه!!.. إن معنى ذلك أن يلصق بالتصوف ما ليس منه، مما قد يناقضه، كقولهم: "علمنا مقيد بالكتاب والسنة"[1]، فهذه المقولة توافق الإسلام، لأن المعرفة في الإسلام مصدرها من خارج النفس، من الوحي، لكن لا توافق التصوف، لأن المعرفة في التصوف مصدرها من داخل النفس، من الذوق والكشف والمنام، فعندما يطلق أحد الصوفية هذه المقولة، فمن الجناية نسبة هذا الأصل في التلقي إلى التصوف، لأنه يتناقض معه كليا، والواجب هنا: وضع كل تصرف يصدر من الصوفية في سياقه الخاص به الموافق لأصوله، بدون أن تحشر جميعها في سياق واحد ولو تشتت أصولها، فالقائل: "علمنا مقيد بالكتاب والسنة" إنما يتمثل الإسلام بقوله هذا، فلا تجوز إذن تزكية التصوف به، نعم قد يكون بابا لتزكيته قائله، أو دفع تهمة عنه، أو إحسان ظن به، أو الاعتذار له، لكن دون زيادة.. ولذا فإن المنهج الصحيح هو التفريق بين الفكرة والمنتسبين إليها، فالفكرة الصوفية باطنا وظاهرا مخالفة للإسلام، أما المنتسبون فمنهم كذلك، ومنهم دون ذلك، ومنهم ليس كذلك، معذور بجهل، أو قلة بصيرة وإدراك، أو شبهة، ونحو ذلك. وعلى ذلك فلا يصح الاحتجاج بأحوال المتصوفة لتزكية التصوف، كأن يقال: هذا إمام صوفي كان مجاهدا، وهذا كان محدثا، وهذا نصر الله به الإسلام، وهذا قال كذا من الحق.. إلخ. فكيف تذمون التصوف؟!. فكل هذه الأخبار صحيحة، وفي الطوائف الأخرى أمثلة مثلها، لكن ليس هذا هو محل النزاع، إنما النزاع في الفكرة ذاتها، فهل الإسلام يقبل أن يضم إلى أصوله القول بالحلول والاتحاد والوحدة، تحت أي ظرف كان؟. فما يكون من متصوفة الإسلام من أعمال صادقة فمردها إلى تعاليم الإسلام، لا التصوف، وهم في ذلك مسلمون مستنون بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ليسوا متصوفة، فالتصوف لا يأمر بجهاد، ولا بطلب علم، ولا يجادل في هذا إلا من لا يعرف حقيقة التصوف كما هي، ولذا كان من الخطأ الفاحش نسبة هذه الأعمال ذات المقامات العالية إلى التصوف. هذا هو المنهج العلمي: (معرفة حقيقة الفكرة من المصدر، لا من المنتسبين). غير أن طائفة من الباحثين في التصوف لم تراع هذا المنهج، فاختل تقويمها وتحقيقها، ذلك أنها عمدت إلى أئمة التصوف في الإسلام فجعلتهم مصدرا لمعرفة صورة الفكرة الصوفية، فنسبت إلى التصوف كل ما صدر منهم، ولما كان أئمة التصوف يمزجون، في أقوالهم وأفعالهم، بين تعاليم التصوف الذي استمدوه من الثقافات القديمة، وتعاليم الإسلام الذي استمدوه من محيطهم، اختلط الأمر على هؤلاء الباحثين فظنوا ذلك المزيج هو الصورة الحقيقية للتصوف[2]، وقد كان هذا خطأ فاحشا، إذ بذلك جمعوا بين النقيضين، حيث إن أصل الإسلام التوحيد، وأصل التصوف الوحدة، وتوحيد الله تعالى ووحدة الوجود لا يجتمعان، وهذا مما حمل المستشرق نيكلسون عن إظهار تعجبه من تقبل المسلمين للمتصوفة وهذه عقيدتهم ؟!.[3] وقد ترتب على ذلك: الخطأ في تصوير الإسلام نفسه، حيث ألحق به ما ليس منه، مما يناقضه، وكذلك الخطأ في تصوير التصوف كما هو، حيث أدرجت أصوله قسرا تحت معاني النصوص الشرعية المخالفة لها، ولما كان مناقضة التصوف للإسلام واضحا لا يخفى، فقد اضطر طائفة من الباحثين كانوا أمثل طريقة من غيرهم، محاولة للتوفيق والجمع، أن يجعلوا التصوف على قسمين: إسلامي، وفلسفي. فنسبوا إلى الفلسفي كل ما يناقض الإسلام، من الحلول والاتحاد والوحدة، وما عدا ذلك من الزهد والذكر والمجاهدة جعلوه من الإسلام، وهكذا قسموا الفكرة الواحدة إلى نقيضين، مخالفين بذلك العقل والواقع. [4]
وعلى ذلك: فالمنهج الصحيح لدراسة التصوف يكون وفق الطريقة التالية: * * *
تلك مسألة، وأخرى تتعلق بنسبة الأقوال الغالية إلى أئمة التصوف.. * * *
- المسألة الأولى: التحقيق في نسبة الأقوال الغالية إلى أئمة التصوف.
فالحاصل أن نسبة القول إلى أحد الأئمة ثابتة في الأحوال التالية: - فيما يتعلق بالحالة الأولى: فقد صنف الأئمة القدماء في التصوف، كأبي سعيد الخراز، والجنيد، والحلاج، والطوسي، والكلاباذي، والقشيري، والسلمي، وأبو طالب المكي، والحكيم الترمذي، والهروي كتبا ورسائل،لم يشكك أحد في نسبتها إليهم، لا من المتصوفة ولا غيرهم، فيها كل الأقوال والأفكار الغالية التي تمثل أصول التصوف، فهي إذن وثيقة صوفية تثبت أن مصنفي تلك الكتب يعتقدون بكل تلك الأقوال والأفكار المنحرفة، فإنهم ما علقوها على سبيل الحكاية، كلا، بل على سبيل التقرير والتأصيل. ومعلوم أن مقام التقرير والتأصيل، ليس كمقام الإخبار والنقل المحض، فالذي ينقل الأقوال في حالة التأصيل والتقرير لفكر ما، وهو منتسب إلى ذلك الفكر، لا شك هو مؤمن معتقد بتلك الأقوال، والذي ينشئ الفكرة وينظّر لها كذلك هو مؤمن بها، وفي هذا الحال ما على من نسب إليه الإيمان بتلك الأقوال والأفكار من حرج. - فيما يتعلق بالحالة الثانية: فإن الملاحظ أن كثيرا من أقوال الصوفية ليست بأسانيد أصلا، وما كان منها بأسانيد قد يكون البحث في صحتها مفيدا، من حيث تبرئة بعض الأئمة مما نسب إليهم من القول الغالي، في حال بطلان السند، غير أنه لا يفيد في تبرئة الفكر الصوفي من الانحراف، بعدما امتلأت مصنفات التصوف بهذه الأقوال على جهة التقرير والتأصيل، وذلك كاف في الحكم على التصوف، ووصفه بالوصف الذي يستحقه بحسب ما في تلك الأقوال من معاني. غير أن مما قد يحتج به من لا يبرئ الأئمة أنفسهم مما نسب إليهم من الأقوال الغالية: ما جاء في تراجمهم من تعرضهم لإنكار العلماء واتهامهم بالزندقة، إذ أدى إلى قتل بعضهم، وسجن آخرين، وهروبهم، وتخفيهم، منهم الجنيد كان يتستر بمذهب ثور، ويدرس أحكام الطريقة خفية، بعد غلق الأبواب بمفتاح يضعه تحت وركه، وكذا الحكيم الترمذي الذي ذكر ما تعرض له من نكير وتهمة في كتابه (ختم الأولياء)، ولا تكاد تجد إماما صوفيا إلا وتعرض لمثل هذه المشكلات.. أفلا ينم ذلك عن صدق ما نسب إليهم؟.[6]
وفي كل حال نقول: إن الحكم والوصف إنما هو في حق الفكرة لا الأشخاص، فالفكر
الصوفي ليس من الإسلام في شيء، وما عليه الفكر الصوفي من حق: * * *
- المسألة الثانية: تحليل موقف ابن تيمية من التصوف.
وهذا مفيد لعامة المتصوفة، الذين جعلوا من الشيخ إماما لا يخالفونه في شيء، ولو
خالف الشرع، فاستثمار مثل هذه الكلمات لهدم هذا الصنم الصوفي المسمى بالشيخ،
والعود بالمتصوفة إلى التقيد بالكتاب والسنة مكسب كبير، يدل على فطنة هذا
الإمام، حيث استطاع نقض هذه الفكرة الغالية من الداخل، فالأتباع لا يسمعون إلا
للمشايخ، فلم لا تستثمر كلماتهم في نقض مذهبهم؟. * * * بعد: فإن أهمية نقد الفكر الصوفي تأتي من جهتين: الأولى – تتعلق بأصل الدين الأعظم، الذي به أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، ولأجله خلق الجن والإنس: ألا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، والإعراض عن عبادة ما سواه، فالرد على المتصوفة في هذا الباب تحقيق لهذا الأصل، الذي خالفوه وعارضوه.
الثانية – الحضور الكبير للتصوف في العالم الإسلامي، فما من بلد إلا ولهم فيه
وجود، وهم في بعضها السواد الأعظم، ونعني بذلك كل من انتسب إلى التصوف ولو
ظاهرا بالاسم، فإن من المتيقن أن الذين يدركون حقيقة هذا الفكر من الصوفية
أنفسهم: قليلون. وأما أكثرهم فلا يعرفون منه إلا الموالد والذكر، دون القضايا
الفلسفية التي تمثل أصول الفكرة.
لطف الله بن عبد العظيم خوجه
------------------------------------ |