|
بسم الله الرحمن الرحيم
زمن نعيشه مخيف ، وأيام تتناوب علينا ، محملةً بأحداثٍ جسيمة ، وفتن عظيمة
، لا تكاد تمر مرحلةٌ من زمن إلا وتحل على الناس من المصائب أعظمها ، ومن
الخطوب أكبرُها ، فإذا انصهروا تحت وطأتها ، وأسرتهم داخل محيطها ، وأصبحوا
من جندها ، جاءت أختُها تتخبط مسرعة ، متزينةً خادعة ، وكثير منهم في
انتظارها متحفزون ، وفي استقبالها متهيأون ، فتفعل ما فعلت الأولى ، وهكذا
الفتن تأتي متسارعةً متتالية ، يرقق بعضها بعضاً، قال ﷺ: «إنه لم يكن نبي
قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدلَّ أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينذرهم شر
ما يعلمه لهم ، وإن أمتَكم هذه جُعِل عافيتُها في أولِها ، وسيُصيب آخرَها
بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها ، وتجيء فتنةٌ فيرقق بعضها بعضاً ، وتجيء الفتنة
فيقول المؤمن : هذه مهلكتي ، ثم تنكشف ، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه
هذه...» رواه مسلم.
تأتي الفتن وهي تحجب ما وراءها من شر وفساد وبلاء عن أعين الناس، كما وصفها
النبي ﷺ بالظلل ، فقد سأله رجل : هل للإسلام منتهى؟ قال ﷺ : " نعم ، أيُّما
أهل بيت من العرب أو العجم أراد الله بهم خيراً أدخل عليهم الإسلام " قال :
ثم مه ؟ قال : " ثم تقع الفتن كأنها الظلل " قال : كلا والله إن شاء الله ،
قال : " بلى والذي نفسي بيده ، ثم تعودون فيها أساود صُباً – أيّ : الحيات
السوداء المنتصبة شديدة اللدغ والنهش- يضرب بعضكم رقاب بعض ، فخير الناس
يومئذ مؤمنٌ معتزلٌ في شعب من الشعاب ، يتقي الله ويذرُ الناسَ من شره ".
رواه أحمد.
تعرض الفتنُ على قلوب العباد ، ويختلفون تجاهها ، فمنهم من يستقبلها
فيضِلُّ ويهلك ، ومنهم من يردُّها فيهتدي وينجو ، كما جاء في قول الحبيب ﷺ
: " تعرضُ الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً ، فأي قلب أُشْرِبَها نكت
فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرَها نكت فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير على قلبين
، على أبيض مثل الصفا ، فلا تضره فتنةٌ ما دامت السموات والأرض ، والآخر
أسود مرباداً ، كالكوز مجخياً ، لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً ، إلا
ما أشرب من هواه " متفق عليه.
الفتن تأتي مضطربةً مع شدة في قوتها واضطرابها ، فيكون تأثيرُها أبلغَ في
القلوب والعقول والأفهام والأقوال ، فشبهها عمر كموج البحر، فقد ثبت عنه
أنه قال : أيكم يحفظ قول رسول الله ﷺ في الفتنة ؟ فقال حذيفة : أنا أحفظ
كما قال ، قال : هاتِ إنك لجريء ، قال : قال رسول الله ﷺ : " فتنة الرجل في
أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
" , قال : ليست هذه ، ولكن التي تموج كموج البحر. متفق عليه.
ومن صفات الفتنة أنها تأتي شديدةَ الاشتباه ، كونُها مظلمةً ، لا يتضح فيها
جواب كثير من الناس , روى حذيفة t في حديثه المشهور الذي أصله في الصحيح ،
ورواه أحمد وأبو داود بلفظ أن النبي ﷺ لما ذكر الفتن ومراحلها التي تمر بها
قال في آخره : " فتنةٌ عمياء صماء ، عليها دعاة على أبواب النار ، فإن
تَمُتْ يا حذيفة وأنت عاضّ على جذل - وهو أصل الشجرة - خيرٌ لك من أن تتّبع
أحداً منهم " .
الفتن – عباد الله- ليس لها قرار ، ولا ترتبط بموعد حضور أو انصراف ، إذا
أقبلت تشبّهت ، وإذا أدبرت تبينّت .
وإن المتأمل في زماننا هذا يدرك تماماً كيف عمّت تلك الفتن وطمّت ، ذنوبٌ
ومعاصي وآثام ليل نهار ، عقوق وفرقة وتحاسد بين القلوب والأبصار ، عبثٌ
ولهوٌ وضياعٌ بين الطبلة والمزمار ، فقرٌ وجوعٌ من هنا وهناك ، غلاءٌ في
الأسعار ، قتلٌ وتشريدٌ وهتكٌ للأستار ، زلازلُ ومحن ، قلاقل وإحن ،
الإسلامُ يحارَب في عقر داره ، والمسلمون ضحايا فوق تراب أراضيهم ، وليس
لهم نصيرٌ إلا الله ، اهتمام بسفاسف الأمور ، وانجرافٌ خلف الدنيا والدون ،
والكافر يصول ويجول ، والرافضي يزبد بأعلى صوته ويقول ، وتغريبيٌ ليس له
هدف سوى كيف يذوب المجتمع في الرذيلة ويؤول ، أمراض فتاكة لم تعرف من قبل ،
وموت فجأة للشباب أكثر من الشيب ، إلى آخر تلك السلسلة المهيبة من الفتن
العظيمة التي تصبّحنا وتمسيّنا، وإن من واجب المسلم أن يقف وقفة حق ومحاسبة
أمام هذه الفتن ، وأن يكون له وقفة جادة حيال ردِّها وإنكارها بكل ما أوتي
من قوة ، ولا يحصل له ذلك إلا حينما يتعرف عليها أولاً ، ثم يتعرف على
واجبه تجاه ردها وإنكارها .
ومن أول تلك الواجبات ومما يعين على مواجهة الفتن بإذن الله تعالى :
• الاعتصام بالكتاب والسنة :
فهما المنهج الواضح ، والسبيل النقي ، والمورد الصافي ، فيهما النجاة
والنجاح ، وبهما تسعد الأرواح ، وعليهما – بعد الله – المتّكى للفوز برضى
الرب جل وعلا. " فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ
فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ
صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا " النساء 175 , وقال ﷺ في الحديث الذي رواه العرباض
بن سارية t : " فعليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ،
تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة
بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار " رواه أحمد وغيره وصححه
الألباني.
• مداومة الأعمال الصالحة :
ففي زمن الفتن تطيش الأقدام من زوغان العقول والأفهام ، أما من قد تحصن
بأعمال صالحة ، فهو في منجى من الفتن بإذن الله , جاء في صحيح مسلم عن أبي
هريرة t قال : قال رسول الله ﷺ : " بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل
المظلم ، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ، أو يمسي كافراً ويصبح مؤمناً ،
يبيع دينه بعرض من الدنيا " فالرسول ﷺ حث على المبادرة بالأعمال الصالحة
عند حلول الفتن، من صلاة وصيام وصدقة وبر وأداء للحقوق الواجبة عليه ، وصلة
الرحم وقراءة القرآن وغيرها من الأعمال الصالحة .
• الدعوة إلى الله تعالى :
كلٌّ بحسبه ، وبقدر استطاعته ، ومن خلالها نعرّف لمن نحب بتلك الفتن
وآثارها وعظم خطرها ، فالدعوة إلى الله تعالى صمّام الأمان لمسيرة هذا
الدين ، وهي سفينة النجاة التي نحن على متنها جميعاً ، فالأب مع أبنائه ،
والعالِم مع طلابه ، والراعي مع رعيته ، الجميع مسؤولون بتبليغ دين الله ،
وبالدعوة إليه ، وبتوضيح تلك الفتن العظيمة ، والتي نزلت بالأمة ، وكيفية
التعامل معها ، والسبيل المنجِّي منها .
• لزوم جماعة المسلمين وإمامهم :
فالالتحام والترابط في زمن الفتن أولى منه في غيره ، والجماعة خيرها كثير ،
وعمرها طويل ، ونتاجها غزير ، والفرقة مرض عضال ، وأنين دائم ، وخسارة
متوقعة ، والمسلمون في زمن الفتن بحاجة إلى أن تكون كلمتهم واحدة ، وأمرهم
واحداً ، ورايتهم واحدة ، فمن أعان المنافقين والكافرين على إخوانه
المؤمنين بخروجه عنهم وعصيانه لأمر وليهم فقد خالف منهج محمد ﷺ ، وكذلك
فعلى من ولي أمراً من أمور المسلمين أن يتقي الله فيهم ، وأن يأخذ بأيديهم
إلى طاعة ربهم، وأن يعلم أنه مسؤول عنهم يوم القيامة , عن أبي هريرة t عن
النبي ﷺ أنه قال : " من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات ، مات مِيتةً
جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عِمِّيّة يغضب لعصبته أو يدعو إلى عصبية أو
ينصر عصبته فقُتل فقِتلة جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب برَّها وفاجرها ،
ولا يتحاش من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه " رواه مسلم
• تحقيق معنى التقوى في القلوب :
وهي من أهم المنجيات من الفتن، كبيرها وصغيرها، حقيرها وعظيمها , قال تعالى
: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ
فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ " الأنفال 29 , أي : قدرة وبصيرة على
التفريق والتمييز بين الحق والباطل، وهي في معناها المعلوم لدينا جميعاً أن
تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية ، بفعل ما أمرك به ، واجتناب ما نهاك عنه ،
ويكون تحقيقها بأمور عدة : منها : التوبة والاستغفار ، والصلاة في وقتها ،
والصبر على قضاء الله وقدره ، وحفظ الجوارح ، والرفقة الصالحة ، وكل تلك
مما يحفظ المسلم من الفتن التي تحاصره من كل مكان.
ختاماً :
ما دام الحديث عن الفتن ، فإن ما يذهب بالعقول ، ويرمي بالمروءات ، ويزيد
من الشر والبلاء ، ويعظم من الفجور والفسوق في المجتمعات ، فتنة النساء ،
فنفوس الرجال تتشوف إليهن ، وهن حبائل الشيطان وفتنة الرجال , قال ﷺ : " ما
تركت بعدي فتنةً أشدَّ على الرجال من النساء " متفق عليه , ومن هذا المنطلق
، ودرءًا لشر هذه الفتنة ، فاحرص يا رعاك الله على حفظ نظرك وفرجك من
الوقوع في أعراض المسلمين ، وتحرّ الارتباط بالزوجة الصالحة ، ذات المروءة
والدين ، وقم داعياً لله تعالى في أهل بيتك وأرحامك وأقاربك ، بأن يلزمن
الحشمة والحجاب والستر والعفاف ، وأن يترفعن عن التبرج والسفور ، وأن يلزمن
قعر بيوتهن ، فهو لهن عنوان سلامة ، ومصدر أمان ، ونجاة من استشراف الشيطان
، وأخبروهن بمكانتهن العظيمة في هذا الدين ، فهن نصف الأمة ، وهن من يلدن
النصف الآخر ، فهن أمة كاملة ، ومن تحت أنظارهن واهتمامهن بالأجيال يخرج
القادة والعظماء ، وبينوا ما عليهن من حقوق لأمتهم بالرأي والفكرة والمشورة
، والاهتمام والدعوة إلى الله تعالى .
والله أعلم وصل اللهم على سيدنا محمد .
كتبه
حسين بن سعيد الحسنية
02/11/1432 هجري
خميس مشيط