ذلكم العالم العَلَم 
      وهل يخفى علم في رأسه نار ؟!
      هو أمير المؤمنين في الحديث 
      المقدّم عند جماهير علماء الإسلام 
      المعترف له بالفضل والإمامة
      
      اسمه : 
      محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن 
      المغيرة بن بَرْدِزْبَـه ، وقيل بَذْدُزْبه ، وهي لفظة بخارية معناها الزراع 
      . 
      قاله الإمام الذهبي في السير .
      
      كنيته : 
      أبو عبد الله .
      
      لقبه : 
      أمير المؤمنين في الحديث .
      وقد لُقب بهذا اللقب غير واحد من أئمة السنة .
      
      مولده : 
      كان مولده في شوال سنة أربع وتسعين 
      ومائة .
      
      تهيئـتة : 
      سبحان من هيأه لنصرة دينه والذب عن 
      سنة نبيه
      فقد كان جدّه المغيرة مجوسياً فأسلم على يدي رجل يُقال له : اليمان الجُعفي 
      والي بخارى .
      ثم طلب إسماعيل بن إبراهيم العلم .
      ومن هنا يُقال في ترجمة الإمام البخاري : الجُعفي مولاهم . أي ولاء الإسلام .
      
      قال أحمد بن الفضل البلخي : ذهبت عينا محمد بن إسماعيل في صغره ، فرأت والدته 
      في المنام إبراهيم الخليل عليه السلام فقال لها : يا هذه قد ردّ الله على 
      ابنك بصره لكثرة بكائك أو كثرة دعائك شك البلخي ، فأصبحنا وقد رد الله عليه 
      بصره .
      
      طلبه للعلم : 
      هو من بيت علم ، فأبوه طلب العلم من 
      قبله
      قال الإمام البخاري : سمع أبي من مالك بن أنس ، ورأى حماد بن زيد ، وصافح ابن 
      المبارك بكلتا يديه .
      
      أما كيف طلب هو العلم فلندع الإمام نفسه يُحدّثنا بالعجب العجاب !
      سأله محمد بن أبي حاتم : كيف كان بدء أمرك ؟
      قال : أُلهمت حفظ الحديث وأنا في الكُـتّاب .
      فقلت : كم كان سنك ؟
      فقال : عشر سنين أو أقل ، ثم خرجت من الكتاب بعد العشر فجعلت أختلف إلى 
      الداخلي وغيره فقال يوما فيما كان يقرأ للناس : سفيان عن أبي الزبير عن 
      إبراهيم فقلت له : إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم ! فانتهرني ، فقلت له : 
      ارجع إلى الأصل ، فدخل فنظر فيه ثم خرج فقال لي : كيف هو يا غلام ؟ قلت : هو 
      الزبير بن عدي عن إبراهيم ، فأخذ القلم مِني وأحكم كتابه ، وقال : صدقت ! 
      فقيل للبخاري : ابن كم كنت حين رددت عليه ؟
      قال : ابن إحدى عشرة سنة 
      قال الإمام البخاري : فلما طعنت في ست عشرة سنة !!! كنت قد حفظت كتب ابن 
      المبارك ووكيع ، وعرفت كلام هؤلاء ، ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة ، فلما 
      حججت رجع أخي بها ، وتخلفت في طلب الحديث .
      
      ابن إحدى عشرة سنة يردّ على شيخه ؟!
      وابن ست عشرة سنة قد طعن في السن !!!
      
      إنها العناية الربانية لصُنع ذلك الإمام ، ليُصبح إماماً للدنيا عربها وعجمها 
      ، وإن كان أعجمي الأصل !
      ( ولِتُصنع على عيني ) 
      
      ومما يدلّ على أنه طعن في السن – على حدّ قوله – وهو ابن ست عشرة سنة أنه 
      قدِم العراق في آخر سنة عشر ومائتين من الهجرة .
      فيكون قدم بغداد وهو ابن ست عشرة سنة !
      
      وكَتَبَ الإمام البخاري عن ألف شيخ !
      نعم 
      قال الإمام البخاري : دخلت بلخ فسألوني أن أملي عليهم لكل من كتبت عنه حديثا 
      ، فأمليت ألف حديث لألف رجل ممن كتبت عنهم .
      
      بل زاد العدد عن ذلك 
      فقد قال قبل موته بشهر : كتبت عن ألف وثمانين رجلا ، ليس فيهم إلا صاحب حديث 
      كانوا يقولون : الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص .
      
      ثم طعن الإمام في السن أكثر ! فبلغ الثامنة عشرة من عمره !
      قال رحمه الله : حججت ورجع أخي بأمي ، وتخلفت في طلب الحديث ، فلما طعنت في 
      ثمان عشرة جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم ، وذلك أيام عبيد 
      الله بن موسى .
      وقال :
      صنفت كتاب التاريخ إذ ذاك عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليالي 
      المقمرة ، وقَـلّ اسم في التاريخ إلاّ ولَـهُ قصة ، إلا أني كرهت تطويل 
      الكتاب .
      
      وفي ذلك السن كان يحكم بين شيوخه !
      قال الإمام البخاري :
      دخلت على الحميدي وأنا ابن ثمان عشرة سنة ، وبينه وبين آخر اختلاف في حديث 
      فلما بَصُرَ بي الحميدي قال : قد جاء من يفصل بيننا ، فعرضا عليّ ، فقضيت 
      للحميدي على من يخالفه .
      
      وكُتِب عنه الحديث وهو ابن سبع عشرة سنة
      قال أبو بكر الأعيَن : كتبنا عن البخاري على باب محمد بن يوسف الفريابي ، وما 
      في وجهه شعرة ، فقلنا : ابن كم أنت ؟ قال : ابن سبع عشرة سنة .
      
      ومما يدلّ على أن الله هيأه لحفظ السنة أنه كان يُكتب عنه الحديث وهو شاب 
      وقد كان أهل المعرفة من البصريين يعدُون خلفه في طلب الحديث ، وهو شاب حتى 
      يغلبوه على نفسه ، ويجلسوه في بعض الطريق ، فيجتمع عليه ألوف أكثرهم ممن يكتب 
      عنه ، وكان شابأ لم يخرج وجهه .
      
      حفظه وسعة علمه :
      وهبه الله حافظة قوية ، بل حافظة 
      خارقة ، وما ذلك إلا حفظاً للسنة ، فقد تكفّل الله بحفظ الذكر 
      ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) والسُّنة 
      من الذِّكـر .
      
      شهد له علماء عصره 
      فقد قال رجاء الحافظ : فضل محمد بن 
      إسماعيل على العلماء ، كفضل الرجال على النساء ، فقال له رجل : يا أبا محمد 
      كل ذلك بمرّة ؟! فقال : هو آية من آيات الله يمشي على ظهر الأرض .
      قال إبراهيم الخواص : رأيت أبا زرعة كالصبي جالساً بين يدي محمد بن إسماعيل 
      يسأله عن علل الحديث .
      
      وقال جعفر بن محمد القطان - إمام كرمينية - : سمعت محمد بن إسماعيل يقول : 
      كتبت عن ألف شيخ وأكثر ، عن كل واحد منهم عشرة آلاف وأكثر ، ما عندي حديث إلا 
      أذكر إسناده .
      
      وقال محمد بن أبي حاتم الوراق : سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان : كان أبو 
      عبد الله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة ، وهو غلام فلا يكتب ، حتى أتى 
      على ذلك أيام ، فكنّا نقول له : إنك تختلف معنا ولا تكتب ! فما تصنع ؟ فقال 
      لنا يوماً - بعد ستة عشر يوما - : إنكما قد أكثرتما عليّ وألححتما فاعْرِضا 
      عليّ ما كتبتما ، فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد على خمسة عشر ألف حديث 
      فقرأها كلها عن ظهر القلب ، حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه ، ثم قال : أترون 
      أني أختلف هدراً ، وأضيع أيامي ؟ فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد .
      
      ومما يدلّ على سعة علمه وحافظته الخارقة هذه الحكاية
      قال أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ : سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن 
      إسماعيل البخاري قدم بغداد ، فسمع به أصحاب الحديث ، فاجتمعوا وعمدوا إلى مئة 
      حديث ، فقلبوا متونها وأسانيدها ، وجعلوا متن هذا الإسناد هذا ، وإسناد هذا 
      المتن هذا ، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس ، 
      فاجتمع الناس ، وانتدب أحدهم ، فسأل البخاري عن حديث من عشرته ، فقال : لا 
      أعرفه ، وسأله عن آخر ، فقال : لا أعرفه ، وكذلك حتى فرغ من عشرته فكان 
      الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض ، ويقولون : الرجل فهم ! ومن كان لا يدري قضى 
      على البخاري بالعجز ، ثم انتدب آخر ، ففعل كما فعل الأول ، والبخاري يقول : 
      لا أعرفه ، ثم الثالث وإلى تمام العشرة أنفس ، وهو لا يزيدهم على : لا أعرفه 
      . فلما علم أنهم قد فرغوا ، التفت إلى الأول منهم ، فقال : أما حديثك الأول 
      فكذا ، والثاني كذا ، والثالث كذا إلى العشرة ، فَرَدّ كل متن إلى إسناده ، 
      وفعل بالآخرين مثل ذلك ، فأقّـرّ له الناس بالحفظ . فكان ابن صاعد إذا ذكره 
      يقول : الكبش النطاح !
      
      وكَتَب عنه بعض شيوخه ، مما يدلّ على سعة علمه ، وشهادتهم له بالفضل
      قال محمد بن أبي حاتم : رأيت عبد الله بن مُنير يكتب عن البخاري .
      وعبد الله بن مُنير من شيوخ البخاري .
      
      ومما يدل على سعة علمه واطّلاعه أنه يحفظ مائة ألف حديث صحيح وضعفها من 
      الضعيف
      قال ابن عدي : حدثني محمد بن أحمد القومسي قال : سمعت محمد بن خميرويه يقول : 
      سمعت محمد بن إسماعيل يقول : أحفظ مئة ألف حديث صحيح ، وأحفظ مائتي ألف حديث 
      غير صحيح .
      
      ثناء العلماء والأئمة عليه :
      قال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم : 
      حدثني بعض أصحابي إن أبا عبد الله البخاري صار إلى أبي إسحاق السرماري عائدا 
      ، فلما خرج من عنده قال أبو إسحاق : من أراد أن ينظر إلى فقيه بحقه وصدقه 
      فلينظر إلى محمد بن إسماعيل .
      
      وقال أبو جعفر : سمعت يحيى بن جعفر يقول : لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن 
      إسماعيل من عمري لفعلت ، فإن موتي يكون موت رجل واحد ، وموته ذهاب العلم .
      وقال : سمعت يحيى بن جعفر وهو البيكندي يقول لمحمد بن إسماعيل : لولا أنت ما 
      استطبت العيش ببخارى .
      
      وقال عبدان : ما رأيت بعيني شابا أبصر من هذا ، وأشار بيده إلى محمد بن 
      إسماعيل .
      
      وقال نعيم بن حماد : محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة .
      
      قال أحمد بن عبد السلام : ذكرنا قول البخاري لعلي بن المديني يعني : ما 
      استصغرت نفسي إلا بين يدي علي بن المديني ، فقال علي بن المديني : دعوا هذا ! 
      فإن محمد بن إسماعيل لم ير مثل نفسه .
      
      وقال أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير : ما رأينا مثل محمد بن 
      إسماعيل .
      
      وعن عبد الله بن أحمد بن حنيل قال : سمعت أبي يقول : ما أخرجت خراسان مثل 
      محمد بن إسماعيل .
      وقال الإمام أحمد بن حنبل : لم يجئنا من خراسان مثل محمد بن إسماعيل .
      
      وقال حاشد بن إسماعيل : كنت بالبصرة ، فسمعت قدوم محمد بن إسماعيل ، فلما قدم 
      قال بُندار : اليوم دخل سيد الفقهاء .
      
      وقال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ( إمام الأئمة ) : ما رأيت تحت 
      أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظ له من محمد بن 
      إسماعيل .
      
      وقال قتيبة : لو كان محمد في الصحابة لكان آية .
      
      وقال الحاكم : سمعت محمد بن يعقوب الحافظ يقول : سمعت أبي يقول : رأيت مسلم 
      بن الحجاج بين يدي البخاري يسأله سؤال الصبي .
      
      وهذا الإمام مسلم بن الحجاج - وجاء إلى البخاري - فقبّل بين عينيه ، وقال : 
      دعني أقبل رجليك
      قال محمد بن حمدون بن رستم : سمعت مسلم بن الحجاج - وجاء إلى البخاري - فقال 
      : دعني أقبل رجليك ! يا أستاذ الأستاذين ، وسيد المحدثين ، وطبيب الحديث في 
      علله .
      ومسلم بن الحجاج هو الإمام مسلم صاحب صحيح مسلم .
      
      وقال أبو عيسى الترمذي : لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ 
      ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل .
      وأبو عيسى هو الترمذي صاحب جامع الترمذي ، وهو ينقل عن الإمام البخاري كثيراً 
      ، ويسأله في علل الأحاديث وصحتها .
      
      وقال أحمد بن نصر الخفاف : حدثنا محمد بن إسماعيل التقي النقي العالم الذي لم 
      أرَ مثله ...
      
      وقال محمد بن يعقوب بن الأخرم : سمعت أصحابنا يقولون : لما قدم البخاري 
      نيسابور استقبله أربعة آلاف رجل ركباناً على الخيل ، سوى من ركب بغلا أو 
      حماراً وسوى الرجالة .
      
      وقال سليم بن مجاهد : ما رأيت بعيني منذ ستين سنة أفقه ، ولا أورع ، ولا أزهد 
      في الدنيا من محمد بن إسماعيل .
      
      ورعـه : 
      كان الإمام البخاري رحمه الله ورعاً شديد الورع
      قال بكر بن منير : سمعت أبا عبد الله البخاري يقول : أرجو أن ألقى الله ولا 
      يحاسبني أني اغتبت أحداً .
      قال الإمام الذهبي في السير : قلت صدق رحمه الله ، ومن نظر في كلامه في الجرح 
      والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس وإنصافه فيمن يضعفه ، فإنه أكثر ما 
      يقول : منكر الحديث ، سكتوا عنه ، فيه نظر ، ونحو هذا ، وقلّ أن يقول فلان 
      كذاب ، أو كان يضع الحديث ، حتى إنه قال : إذا قلت فلان في حديثه نظر ، فهو 
      متهم واه ، وهذا معنى قوله : لا يحاسبني الله أني اغتبت أحداً . وهذا هو 
      والله غاية الورع .
      
      قال محمد بن أبي حاتم الوراق سمعت البخاري يقول : لا يكون لي خصم في الآخرة ، 
      فقلت : إن بعض الناس ينقمون عليك في كتاب التاريخ ، ويقولون : فيه اغتياب 
      الناس ، فقال : إنما روينا ذلك رواية لم نقله من عند أنفسنا . قال النبي صلى 
      الله عليه وسلم : بئس مولى العشيرة . يعني حديث عائشة رضي الله عنها .
      قال : وسمعته يقول : ما اغتبت أحداً قط منذ علمت أن الغيبة تضرّ أهلها . 
      
      مِن زهده : 
      قال الحسين بن محمد السمرقندي : كان محمد بن إسماعيل مخصوصا بثلاث خصال ، مع 
      ما كان فيه من الخصال المحمودة : كان قليل الكلام ، وكان لا يطمع فيما عند 
      الناس ، وكان لا يشتغل بأمور الناس ، كل شغله كان في العلم .
      
      مِن كرمه : 
      قال محمد بن أبي حاتم : كان يتصدق بالكثير ، يأخذ بيده صاحب الحاجة من أهل 
      الحديث فيناوله ما بين العشرين إلى الثلاثين وأقل وأكثر من غير أن يشعر بذلك 
      أحد ، وكان لا يفارقه كيسه . قال : ورأيته ناول رجلا مرارا صُرة فيها ثلاث 
      مئة درهم .
      
      مما ذُكر في عبادته : 
      قال محمد بن أبي حاتم الوراق : وكان أبو عبد الله يصلي في وقت السحر ثلاث 
      عشرة ركعة ، وكان لا يوقظني في كل ما يقوم ، فقلت : أراك تحمل على نفسك ولم 
      توقظني ؟ قال : أنت شاب ولا أحب أن أفسد عليك نومك .
      وقال بكر بن منير : كان محمد بن إسماعيل يصلي ذات ليلة ، فلسعه الزنبور سبع 
      عشرة مرة ، فلما قضى الصلاة قال : انظروا أيش آذاني ؟!
      وقال محمد بن أبي حاتم : دُعي محمد بن إسماعيل إلى بستان بعض أصحابه ، فلما 
      صلى بالقوم الظهر قام يتطوع ، فلما فرغ من صلاته رفع ذيل قميصه فقال لبعض من 
      معه : انظر هل ترى تحت قميصي شيئا ؟ فإذا زنبور قد أبَـرَهُ في ستة عشر أو 
      سبعة عشر موضعا ، وقد تورم من ذلك جسده ، فقال له بعض القوم : كيف لم تخرج من 
      الصلاة أول ما أبَـرَك ؟ قال : كنت في سورة فأحببت أن أتمها .
      
      جهاده : 
      كعادة العلماء الربانيين ، يُسطّرون العلم بمحابرهم ، ويُعطّرون التاريخ 
      بدمائهم .
      وكان الإمام البخاري رحمه الله مع سعة علمه وتعليم الناس ، واشتغاله بذلك ، 
      كان يُقيم في الثغور أحيانا
      ويدل على ذلك هذه القصة 
      قال محمد بن أبي حاتم : رأيت محمد بن إسماعيل البخاري استلقى على قفاه يوما 
      ونحن بـ " فَرَبْر " في تصنيفه كتاب " التفسير " وأتعب نفسه ذلك اليوم في 
      كثرة إخراج الحديث ، فقلت له إني أراك تقول : إني ما أثبت شيئا بغير علم قط 
      منذ عقلت ، فما الفائدة في الاستلقاء ؟ قال : أتعبنا أنفسنا اليوم ، وهذا ثغر 
      من الثغور خشيت أن يحدث حدث من أمر العد ، فأحببت أن استريح ، وآخذ أهبة ، 
      فإن غافََصَنا العدو كان بنا حِراك . ( غافصنا أي فاجأنا ) .
      قال : وكان يركب إلى الرمي كثيرا ، فما أعلمُني رأيته في طول ما صحبته أخطأ 
      سهمه الهدف إلا مرتين ، فكان يصيب الهدف في كل ذلك ، وكان لا يُسبق .
      
      تأليفه للصحيح : 
      نفعه الله بمقترح سمعه عند شيخ من شيوخه ، ذلكم هو الإمام الجليل إسحاق بن 
      راهويه
      قال الإمام البخاري :
      كنت عند إسحاق بن راهويه فقال بعض أصحابنا : لو جمعتم كتابا مختصراً لسنن 
      النبي صلى الله عليه وسلم ، فوقع ذلك في قلبي ، فأخذت في جمع هذا الكتاب .
      وقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنني واقف بين يديه وبيدي مروحة 
      أذب عنه ، فسألت بعض المعبرين ، فقال لي : أنت تذبّ عنه الكذب ، فهو الذي 
      حملني على إخراج الجامع الصحيح .
      وقال الفربري : سمعت محمد بن أبي حاتم البخاري الوراق يقول : رأيت محمد بن 
      إسماعيل البخاري في المنام يمشي خلف النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى 
      الله عليه وسلم يمشي ، فكلما رفع النبي صلى الله عليه وسلم قدمه وضع البخاري 
      قدمه في ذلك الموضع .
      
      وهذا الكتاب الذي جمعه هو المشهور بـ ( صحيح البخاري ) .
      وقد سماه الإمام البخاري : الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله 
      صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه .
      وهو أول كتاب صُنف في الحديث الصحيح المجرد ، وصنّفه في ست عشرة سنة .
      قال فيه الإمام البخاري : وما أدخلت فيه حديثا إلا بعدما استخرت الله تعالى ، 
      وصليت ركعتين ، وتيقنت صحته .
      ولما ألف البخاري كتاب الصحيح عرضه على أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن 
      المديني وغيرهم ، فاستحسنوه ، وشهدوا له بالصحة إلا في أربعة أحاديث . قال 
      العقيلي : والقول فيها قول البخاري ، وهي صحيحة .
      
      وهو أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل ،وتلقّـته الأمة بالقبول ، وأجمعت الأمة 
      على وجوب العمل بأحاديثه .
      والجمهور على ترجيح البخاري على مسلم ؛ لأنه أكثر فوائد منه .
      قال النسائي : ما في هذه الكتب أجود منه .
      عدد أحاديثه :
      جملة ما فيه من الأحاديث المسندة سبعة 
      آلاف وخمس مئة وثلاثة وسبعون حديثا ، بالأحاديث المكررة ، وبحذفها نحو أربعة 
      آلاف حديث .
      
      وقد قيل فيه :
      صحيح البخاري لو أنصفوه = لما خط إلا بماء الذهب 
      هو الفرق بين الهدى والعمى = هو السد بين الفتى والعطب
      أسانيد مثل نجوم السماء = أمام متون كمثل الشهب
      به قام ميزان دين الرسول = ودان به العجم بعد العرب
      
      فيا أخوتاه :
      لا يحقرن أحد منكم مُقترحأً يقترحه على من يتوسّم فيه الخير ثريّـاً كان أو 
      عالماً أو طالب علم .
      
      ابتلاؤه : 
      قال ابن عدي سمعت عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي يقول : جاء محمد إلى 
      أقربائه بـ " خَرْتَنْك " فسمعته يدعو ليلة إذ فرغ من ورده : اللهم إنه قد 
      ضاقت عليّ الأرض بما رحبت ، فاقبضني إليك ، فما تم الشهر حتى مات .
      
      وفاته : 
      توفي البخاري ليلة السبت ليلة الفطر عند صلاة العشاء ، ودُفن يوم الفطر بعد 
      صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومئتين ، وعاش اثنتين وستين .
      
      فرحم الله الإمام البخاري برحمته الواسعة ، وأسكنه فسيح جناته .
      وجزاه عن أمة الإسلام خير الجزاء وأوفره وأجزله .
      
      ووالله إني لأحبه حباً شديداً ، وأرجو الله أن يجمعنا به في دار كرامته ، 
      وبحبوحة جنته . 
      
      ورحم الله الإمام البخاري فلقد كان أمة وحدة .
      لم يكن صاحب بدعة بل كان صاحب سنة ، بل علما في السنة .
      ولم يكن مُقلِّـداً لغيره بل كان إماماً مُجتهداً .
      فرحمه الله وأعلى منزلته .
      
      زيادة في مصادر ترجمته : 
      سير أعلام النبلاء 
      هدي الساري مقدمة فتح الباري 
      مقدمة عمدة القارئ