| 
       | 
      
  
   
  ( المَلَكَة ) ؛ لأحرفها جَرْس يَنْبعث من أعطافها ، ولتَرْكِيْبةِ رَسْمِها سمتٌ 
  يُضْفِي عليها الوقار والعظمة .
  غير أن تكييف وجودها وتشخيصه على أرضيَّة العلم والمعرفة ـ يعني تَنْحية زَغَل 
  المعرفة ، وفضول العلم … مع التطلُّع إلى اليد المُمْسِكة بآليَّة افتراع العلم 
  وبَعْثه ، بعيداً عن أُخْذَة رَسْم القلم ، وَوَقْع اللَّسَن . 
  وتوصيف ( المَلَكَة ) ـ عند استنطاق الفصاحة ـ مُعْجِرٌ ؛ لما فيه من اتحاد أجزاء 
  المعاني وتداخلها ، واشتداد ارتباط ثانٍ منها بأوَّل … وليس لِمَا شأنه أن يجئ ، 
  على هذا الوصف حَدٌّ يَحْصره ، وقانون يُحِيط به . 
      
  هذا ، و( الملكة ) أصلُ العلم ، وبريد الحَذْق 
  فيه ، يقول ابن خلدون ـ يرحمه الله ـ : (( الحذق في العلم ، والتَّفَنُّن فيه ، 
  والاستيلاء عليه ـ إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده ، والوقوف على 
  مسائله ، واستنباط فروعه من أصول . وما لم تَحْصُل هذه الملكة لم يكن الحذق في 
  ذلك المُتَنَاوَل حاصِلاً ))(1) . 
      
  وارتياد نواحي الظَّفَر ، بتوخِّي وجوه النُّجْح 
  لنيل ( الملكة ) : يقوم على قوائم :
  -أولها : 
  نفس قابلة ، لها طبع إذا قَدَحْتَه وَرِي ، وقلب إذا أَرَيْتَه رأى . قد صَفَتْ 
  قريحتها ، وصحَّ ذَوْقها ، وتمَّت أداتها . 
  وأما من كان مَيْسَم نفسه بلادة الطبع ، يؤمُّها تَقَالُّ الآلة ـ فكالنافخ في 
  الفَحَم من غير نار ، وكالُملْتَمِس الشمَّ من أَخْشَم ! .
      
  -وثانيها : 
  يَعْتَلِق بالعلم المُنْتَسِبة إليه المَلَكَة ؛ بأن يُنْكَفأ عليه فَوْقَ 
  انكِفاء الأم على واحدها ، وإلا كان بَصَره به مدخولاً . ولذلك مَبْدأ ذَكَرَه 
  السِّعْدي يرحمه الله بقوله : (( يَنْبغي للمتعلم إذا دخل في فن من فنون العلم ـ 
  أن يَنْظر إلى كل باب من أبواب العلم ، فَيَحْفظ منه الأشياء المهمة ، وبحوثه 
  النافعة ، فيُحَقِّقها ويتصوّرها كما ينبغي ، ويحرص على مآخذها ، وما هي مبنية 
  عليه ، فإنه لا يزال على هذه الحال حتى يَحْصل له خير كثير ، وعلم غزير ))
  (2) .
  ثم الصَّدَر عن ذلك يَفْتَح عَيْن القلب في ذلك العلم فَيُحْتَفى به مدارسةً 
  ومزاولةً، و( المزاولات تُعْطي الملكات ، والتمرينات ترقِّي صاحبها لِدَرَج 
  الكمالات ) (3) . 
      
  -وثالثها : 
  مَدُّ جسرِ المعرفة للعلوم التي بينها وبين ( علم الملكة ) ـ سبب وثيق ، ولا يكاد 
  صِنْف من العلم يَتَوَحَّد ، يقول الدَّلَجي ـ يرحمه الله ـ : (( العلوم مربوطٌ 
  بعضها ببعض ومتعلِّق به ، إما على سبيل الاستلزام ، أو على سبيل الاستمداد ))(4). 
      
  وتلك العلوم الآليَّة لغيرها ( لا ينبغي أن 
  يُنْظَر فيها إلا مِنْ حيث هي آلة لذلك الغير فقط ، ولا يُوَسَّع فيها الكلام ، 
  ولا تُفَرَّع المسائل ؛ لأن ذلك مُخْرِجٌ لها عن المقصود ، إذ المقصود منها ما هي 
  آلة له لا غير ، فكلما خرجتْ عن ذلك خرجتْ عن المقصود ، وصار الاشتغال بها 
  لَغْواً مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها )
  (5) .
      
  ومِنْ كُلِّ ذلك يَبِيْن الفَارِق بين الملكة 
  التي هي عمود العلم ، وبين مُجرَّد حفظ مفردات العلم وفهمها ، يقول ابن خلدون 
  يرحمه الله : (( الملكة هي غير الفهم والوعي ؛ لأنا نجد فهم المسألة الواحدة من 
  الفن الواحد ووعيها ـ مشتركاً بين مَنْ شَدَا في ذلك الفن وبين مَنْ هو مبتدئ فيه 
  ، وبين العامِّي الذي لم يُحَصِّل علماً وبين العالم النِّحْرِير ))
  (6).
  
  ______________
  (1) المقدمة (2/111ـ112) طبعة : مؤسسة الكتب الثقافية .
  (2) الفتاوي ، ص 101 .
  (3) المصدر السابق . 
  (4) الفلاكة والمفلوكون ، ص 41 . 
  (5) المقدمة ، لابن خلدون يرحمه الله (2/238) . 
  (6) المصدر السابق (2/112) .