|
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
النقد ضرورة!!
بعد كل مقال أو أطروحة نقدية يثورُ سؤالٌ يبحث عن الحل!
جلَّ من يقرأ نقدًا يعقّب عليه بحالة من الغضب والاشمئزاز، وربما يصيح
بصوتٍ عال: ما الحل؟!.. نريد حلًا...!!
يبغضون النقد ويرفضونه!!
والنقد سيء السمعة، وخاصة في هذه الأيام، وذلك لأن جل المعروض على صفحات
الحاضر والماضي القريب لا يصلح، وإلا ما فسد حالنا هكذا؛ وإن النقد- في كل
حين، وخاصة هذه الأيام- ضرورة، وذلك لأنه يزيح كمية كبيرة من سيل
المعلومات التافهة والضارة التي تتدفق علينا ليل نهار من كل مكان، فهو
يؤطر المخالف، وبالتالي يريحنا من التفاصيل الشاقة التي لا نملك المنافسة
فيها؛ والنقد منهج الأقوياء، وقد حث القرآن الكريم الناس على ممارسة
التأمل والتفكر وطرح الأسئلة والبحث عن إجابات صحيحة، وعَرَضَ شبهات
المخالفين ورَدَّ عليها بما في ذلك تلك التي تتعدى على ذات الله العلي
الكبير العظيم الملك المالك؛ ولك أن تتذكر أن جوهر المناهج الاجتماعية
للمنظومة السائدة اليوم شرقًا وغربًا هو النقد؛
وقبل هؤلاء بُنيت المعارف الإسلامية كلها.. نعم كلها في
سياق نقدي لا أعرف له مثيلًا، وتأمل معي:
المذاهب الأربعة حالة من النقد، فالشافعي
تلميذ مالك ومجاز منه- ولم يكن مالك يجيز أيّ أحد-، وتدارس (أي الشافعي)
علم أبي حنيفة مع تلميذه الأشهر محمد بن الحسن، ومع ذلك خرج بمذهب جديد لا
هو مذهب مالك ولا هو مذهب أبي حنيفة.. تعددت مداخله فكان من الطبعي أن يخرج
بشيء جديد؛ وأحمد كان محبًا للشافعي، ويجاهر بحبه بين أبنائه وبين طلابه،
ومع ذلك لم يوافقه في كل ما ذهب إليه، فصار كل واحد منهما في الناس بمذهب.
ولذا قال ابن القيم عن موافقة ابن مسعود لعمر بن الخطاب في مسألتين: وافقه
موافقة العلماء، بمعنى أنه جاء من طريق خاص فالتقاه فتوافقا، ولم يتوافقا
توطئًا لشخصيهما. ويكثر في كتب الفقه القول: قاله الأربعة.. كل واحدٍ قاله
منفردًا واتفقوا دون قصد الاتفاق ابتداءً.
وأشهر ما يردد في ساحة علماء الحديث هو "الجرح والتعديل"، وهو غاية النقد
ورفض التواطؤ.. مهما كانت قامة من يتكلم،
فحتى البخاري لم يتركوه، وعلو كعب الشيخين (البخاري ومسلم) لأن صحيحيهما
تعرض للنقد من كل جهة، وجيلًا بعد جيل، فوِجِدَا صحيحًا فتواطؤا على صحته.
لا أنهم أعطوهما صكًا بالصحة دون نقد!!
وفي مجال اللغة العربية كان النقد بين اللغويين (الخلاف اللغوي) على أشده..
والتناطح الدائم بين الكوفيين والبصريين (وهم جيران) مشهور للعامة قبل
الخاصة، وكذا التناطح (المساجلات) بين شيوخ اللغة وأعلامها ومما يستدل به
هنا أن سمّوا أحد علماء اللغة بـ"المبرِّد" لأنه كان يجهز على كل من
يناظره.. يُبرِّده.. كأنما يقتله، وقد مات فحل اللغة الأول (سيبويه) بعد
مناطحة علمية... نطحه كبش آخر فقتله..
قُتل في جدال.. قتل من نقد، وصار يوم قتله مفخرة!!
وفي الشعر ظهرت النقائض (الهجاء المتبادل كما بين الفرزدق وجرير())
مبكرًا، وظهرت المعارضات (صياغة ذات المعنى بأسلوب مختلف)، ثم المساجلات
الشعرية (كالمبارزة، ولكن بالكلمات). وكانت أشد وقعًا على بعض النفوس من
السيوف.
وكذلك في سياق تدوين السيرة النبوية وتاريخ الراشدين، وتاريخ الأمة بعد
ذلك، والعلوم الطبيعية بعد ذلك: يُعِّقب بعضهم على بعض، إن كان محبًا له
فمن خلال الشرح والتفصيل، وإن كان رافضًا لما يقول فمن خلال رؤية نقدية
مواجهة في مصنف مستقل.
فاستقامت المعارف بعد نزول الوحي في هيئة اتجاه
عام بداخله تدافع قوي، ولم يعرف علماء الأمة- منذ الصحابة- التواطؤ فيما
بينهم. حتى أننا يمكننا الجزم بأنه لا يوجد عالم علّم الناس إلا وتجد من
تتبعه (بمعنى نَقَدَهُ)!
وإن رفض النقد جاء
إلينا من عند النصارى.. فالنصارى وحدهم هم الذين يرون عصمة العلماء (رجال
الدين).
وعمليًا تكون
القداسة من بعض (وليس كل) من يتواجدون حول العالِم، وبعضهم
(بعض الحضور حول العالم من طلابه) لا يتفق.. ولا يسمح له بالخلاف فيذهب
بعيدًا ويعلن عن خلافه بشكل عملي، وذلك عن طريق طرحٍ جديد وموقف جديد
وبالوقت يصبح تكتل بشري جديد يصارع القديم، فتكون المحصلة كيانات صغيرة
متصارعة.
أثمر كبتهم للنقد تفتتًا طوليًا في شأنهم كله.. حتى المسلمات.. وكفَّر
بعضُهم بعضَهم. وقاتل بعضُهم بعضَهم.. وانقسموا إلى قرابة ألف دين..
والانقسام مستمر، لأنهم كبتوا النقد.. لأن بعض المريدين أرادوا آلهة بين
أيديهم.
والمشهد المشابه لهم عندنا في الطرق الصوفية، وخاصة الغلاة منها، وكذلك
الجماعات الإسلامية وخاصة السلفية منها أولئك الذين تصنعوا قداسة للعلماء..
أولئك الذين حاولوا صنع حرمٍ آمنٍ حول بعض المجتهدين في العلم.. ولا أقول
العلماء فالعالم واسع الصدر يقول ويسمع، وسيتضح أمرهم في هذا البحث إن شاء
الله، وبحوله وقوته.
إن النقد ضرورة
للتخلص من الضار والتافه، ولانتقاء ما يصلح للبناء عليه. وإن كبت النقد ليس
من منهجنا، ولا يمكن مع رفض النقد (وحدة الرأي المزعومة) تطوير الموجود، أو
الحفاظ على وحدة الصف. إن الوحدة عندنا في الاتجاه العام لا في التفاصيل،
والاتجاه العام هو البحث عن الطريقة الأمثل لإقامة الحياة على ما أرسل الله
به محمدًا. صلى الله عليه وسلم.