قلب اصطفاه ربه |
|
الدكتور عصام بن هاشم الجفري |
الحمد لله علاَّم الغيوب،غفَّار الذنوب،أحمده جلَّ شأنه وأشكره كم سترعلينا من
الفضائح والعيوب،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك يخلق ويصطفي ما يشاء من
القلوب،وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله اصطفاه ربه بالرسالة
فبلغها نقية يلا كدر يشوب،اللهم صلى على هذا النبي الكريم وعلى آله وصحبه وسلم
تسليماً كثيراً.أمابعد:فأوصيكم معاشر المؤمنين بتقوى الله فهي وصية ربنا
للأولين والآخرين وصاكم بها ربكم في كتابه بقوله:{ وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ
تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ
اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدً} (النساء:131).أيها الأحبة في الله يكثر الحديث في
شهر رجب المحرم عن حادثة الإسراء والمعراج على الرغم من أن تاريخ وقوع هذه
الحادثة العظيمة لم تجزم به كتب السير والأقوال فيه متعددة؛بيد أني لا أريد
الانسياق وراء الجدل القائم في هذا الجانب فنحن غير متعبدين بتحديد هذا التاريخ
ولن نسأل عنه يوم القيامة،فتعالوا معي أحبتي لنتأمل في هذا الحدث العظيم بروح
إيجابية نحاول من خلالها أن نرتقي بإيماننا وأن نستنبط من تلك الحادثة مفهوم
إيماني عالٍ؛الله جلَّ في علاه يصطفي من قلوب عباده ما يشاء ولا يقبل منها إلا
أن تتعلق به ويهيأ لها ظروف ذلك ثم يبتليها سبحانه ويمحصها فمتى ما ثبتت على
ذاك التعلق والحب ولم تلتفت لسواه أغدق عليها من فضله وإن حدث من تلك القلوب
ولو كلمة أو التفاتة بسيطة أعاد الله لها التمحيص حتى تتثبت؛ تعالوا أحبتي
نتأمل هذا المفهوم ابتداء من أعظم قلب بشري اصطفاه ربه،فهذا نبينا وحبيبن صلى الله عليه وسلم أراد
الله أن ينشأ يتيم الأب والأم ومعلوم تعلق قلب الابن بوالديه،ثم كانت البعثة
حدثاً عظيماً في حياته صلى الله عليه وسلم احتاج معه إلى صدر حنون يضمه فسخر الله له بفضله أمنا أم
المؤمنين خديجةفأحبه صلى الله عليه وسلم حباً عظيماً لحنانها ولدعمها له في دعوته صرح بذلك في
أكثر من موقف،واحتاج صلى الله عليه وسلم في بداية دعوته إلى من يحوطه ويدافع عنه أمام أذى قريش حتى
يثبت ويشتد عود الدعوة فسخر الله له عمه أبو طالب فكان له مكانته عند
النبي صلى الله عليه وسلم تقديرا لجهوده وحرص على إسلامه حتى أخر نفس في حياته،ثم كانت حادثة حصار
الشعب التي عجزت فيها زوجه الحبيبة خديجة وعمه أبو طالب أن يقدموا له فيها
شيئاً بل عجزوا حتى أن يقدموا لأنفسهم ودخلوا معه في المحنة ولم يخرجوا منها
إلا بقدرة الله وحده الذي أرسل جند من جنده فأتلفوا صحيفة المقاطعة الجائرة، ثم
تتابع موت الأحبة خديجة صلى الله عليه وسلم وأبو طالب فكان عام الحزن،وكل ذلك كان تمحيصاً لقلب
النبي صلى الله عليه وسلم فعلم علام الغيوب مدى تعلق وحب هذا القلب له فمنَّ عليه بأعظم رحلة في
حياة بشر ورأى فيها من عظيم قدرة الله{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ
لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي
بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ}(الإسراء:1).فزاد هذا القلب الطاهر تعظيماً وحباً وتعلقاً بربه حتى
لما خير في سكرات موته لم يختر أحداً أو شيئاً من الدنيا؛عن أمنا أم المؤمنين
عَائِشَةَقَالَتْ:كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ:((إِنَّهُ لَمْ
يُقْبَضْ نَبِيٌّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرَ))
فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ
فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ:((اللَّهُمَّ
الرَّفِيقَ الْأَعْلَى)) فَقُلْتُ:إِذًا لَا يَخْتَارُنَا وَعَرَفْتُ أَنَّهُ
الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ قَالَتْ:فَكَانَتْ آخِرَ
كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ
الْأَعْلَى.(البخاري،المغازي،ح(4104)).فداك أبي وأمي ونفسي ياحبيبي يارسول
الله.واصطفى الله قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفي يوم حنين يوم أن تكلم بعضهم بكلمة تشعر
بالالتفات لغير الله فقالوا: لن نغلب اليوم من قلة كان التمحيص وأصابهم ما
أصابهم وخلد الله ذلك في كتابه درساً للأمة بقوله:{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ
فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ
فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ
ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ()ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا
وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}(التوبة:25 ،26).
والقصص في هذا المجال عديدة فإبراهيم عليه السلام اصطفاه ربه فقال:{..وَاتَّخَذَ اللَّهُ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلً}(النساء:125).وإبراهيم عليه السلام لم يرزق بالولد إلا على كبر
وتعرفون كم هي مكانة الولد وبالذات إذا جاء بعد صبر طويل،وتزداد محبة ذلك الولد
كلما كبر،فأراد الله أن يمحص قلب خليله إبراهيم عليه السلام وأخبرنا عن ذلك بقوله:{
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي
الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ
مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ()فَلَمَّا
أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ()وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ()قَدْ
صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ()إِنَّ هَذَا
لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ()وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ
عَظِيمٍ}(الصافات:102-107).فلما ثبت عليه السلام وعلم علام الغيوب تعلق قلبه العظيم به
أكرمه ببناء الكعبة والنداء للحج وغدا الذبح في يوم النحر سنة إلى يوم
القيامة؛واصطفى الله قلب يوسف عليه السلام ومحصه بامرأة العزيز والسجن فلما قال كلمته التي
أخبرنا الله عنها بقوله:{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا
اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ
فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}(يوسف:42).معاشر المؤمنين هذا ربكم يناديكم
فاسمعوا لنداء ربكم إذ يقول:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(المائدة:35). |