|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله وسلم على من نبيه
ومصطفاه أما بعد:
فقد حصل نقاش علمي حول فقه مرويات ضرب
الزوجات الواردة في السنة، فذكرت ما ورد في القرآن والسنة في هذا الموضوع،
وتبين لي أن الموضوع لم يجمع بطريقة واضحة ومختصرة فيما أعلم.
وضرب النساء غير موجود في بيئتنا في
العارض (وسط الجزيرة العربية)، وربما أنه غير معروف في غيرها، بسبب التوعية
الدينية الأصيلة والأخلاق العربية النبيلة، فضرب النساء ضعف، والنساء في
بيئتنا يعرفون قدر الزوج، وأن احترامه وتقديره سبب لدخول الجنة، والرجال
يديرون بيت الزوجية بالحكمة والموعظة الحسنة.
ودين الله لجميع الأمم من عرب وعجم،
والناس تختلف في طباعها، وهذه الطباع بحاجة لسياسة وضبط بالحدود الشرعية،
فجمعت تلك الأحاديث الواردة في الضرب وعنوت لها وعلقت بما رأيته يحتاج
لتعليق، ومن الله أستمد العون.
أولا: الإذن بالتأديب بالضرب غير المبرح عند وجود موجبه
ثبت عن جابر
رضي الله عنه عن النبي
ﷺ أنه قال في حجة الوداع : ( اتَّقُوا
اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ
وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ
أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذلك
فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غير مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) . رواه مسلم ( 1218 ) .
وفي " الموسوعة الفقهية " ( 10 / 24 )
: ويجب أن يكون الضّرب غير مبرّح ، وغير مدمٍ ، وأن يتوقّى فيه الوجه
والأماكن المخوفة ، لأنّ المقصود منه التّأديب لا الإتلاف ؛ لخبر : ( إنّ
لكم عليهنّ ألاّ يوطئن فُرُشَكم أحداً تكرهونه ، فإنْ فعلنَ فاضربوهنّ
ضرباً غير مبرّح ) . ويشترط الحنابلة ألاّ يجاوز به عشرة أسواط ؛ لحديث :
( لا يجلد أحدٌ فوق عشرة أسواطٍ إلاّ في حدّ من حدود اللّه ) .
ثانيا: النهي عن ضرب الزوجة في الوجه
ثبت عَنْ مُعَاوِيَةَ بن حَيْدَة
الْقُشَيْرِيِّ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ
أَحَدِنَا عَلَيْهِ ؟ قَالَ : ( أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ
وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ أَوْ اكْتَسَبْتَ وَلَا تَضْرِبْ
الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّحْ وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ ) .
قَالَ أَبُو دَاوُد : وَلَا تُقَبِّحْ : أَنْ تَقُولَ قَبَّحَكِ اللَّهُ
. رواه أبو داود ( 2142 ) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
ثالثا: التأديب بالضرب مرحلة ثالثة من مراحل التأديب:
قال تعالى : ( وَاللَّاتِي تَخَافُونَ
نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ
وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ) النساء/ من الآية 34 .
وفي " الموسوعة الفقهية " ( 10 / 23 ،
24 ) : طرق تأديب الزّوجة :
أ. الوعظ .
ب. الهجر في المضجع .
ج. الضّرب غير المبرّح .
وهذا التّرتيب واجب عند جمهور الفقهاء
، فلا ينتقل إلى الهجر إلاّ إذا لم يجد الوعظ ، هذا لقوله تعالى : (
واللّاتي تخافون نشوزَهنّ فعِظُوهنّ واهجروهنّ في المضاجِع واضربوهنّ ) .
وفي " المغني " لابن قدامة الحنبلي : في الآية إضمار تقديره : واللّاتي
تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ ، فإن نشزن فاهجروهنّ في المضاجع ، فإن أصررن
فاضربوهنّ .
وذهب الشّافعيّة - في الأظهر من قولين
عندهم - إلى أنّه يجوز للزّوج أن يؤدّبها بالضّرب بعد ظهور النّشوز منها
بقول أو فعل، ولا ترتيب على هذا القول بين الهجر والضّرب بعد ظهور النّشوز،
والقول الآخر يوافق رأي الجمهور .
رابعا: مشروعية ترك الضرب اقتداء بالنبي
ﷺ
صح عن عَائِشَةَ
رضي الله عنه قالت : ما ضَرَبَ رسول
اللَّهِ ﷺ شيئا قَطُّ بيده ولا
امْرَأَةً ولا خَادِمًا إلا أَنْ يُجَاهِدَ في سَبِيلِ اللَّهِ ، وما نِيلَ
منه شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ من صَاحِبِهِ إلا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ من
مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عز وجل . رواه مسلم ( 2328 ) .
قال النووي -
رحمه الله - : فيه أن ضرب الزوجة
والخادم والدابة وإن كان مباحاً للأدب : فتركه أفضل . " شرح مسلم " ( 15
/ 84 ) .
وترك الضرب كمال في عقل الرجل، وهو خير
من الضرب، فقد ثبت عَنْ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (
لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ ) فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
ﷺ فَقَالَ ذَئِرْنَ النِّسَاءُ عَلَى
أَزْوَاجِهِنَّ فَرَخَّصَ فِي ضَرْبِهِنَّ ، فَأَطَافَ بِآلِ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ
أَزْوَاجَهُنَّ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ :
( لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ
لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ ) . رواه أبو داود ( 2146 ) ، وصححه
الألباني في صحيح أبي داود .
ومعنى "ذئِرنَ ": أي : نشزْن وساءت
أخلاقهن .
وفي " عون المعبود " ( 6 / 130 ) :
بل خياركم من لا يضربهن ، ويتحمَّل عنهن ، أو يؤدبهن ولا يضربهن ضرباً
شديداً يؤدي إلى شكايتهن .
خامسا: التهديد بالضرب أدب
ورد حديث: عَلِّقُوا السَّوْطَ حَيْثُ
يَرَاهُ أَهْلُ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ أَدَبٌ لَهُمْ .حسنه الشيخ الألباني
رحمه الله تعالى في "سلسة الأحاديث
الصحيحة" (3 / 431). والغرض التخويف.
سادسا: الضرب رحمة لا عذاب
صح عن عبد الله بن زمعة : أنه سمع
النبي ﷺ يخطب:.. وذكر النساء فقال:
يعمد أحدكم يجلد امرأته جلد العبد، فلعله يضاجعها من آخر يومه. أخرجه
البخاري (4942) ومسلم 2855. وفي رواية: بمَ يَضْرِبُ أحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ
ضَرْبَ الفَحْلِ، أوِ العَبْدِ، ثُمَّ لَعَلَّهُ يُعَانِقُهَا. رواه
البخاري 6042
وعن لقيط بن صبرة
رضي الله عنه قال: قلتُ يا رسولَ
اللَّهِ إنَّ لي امرأةً وإنَّ في لسانِها شيئًا يعنى البَذاءَ قالَ
فطلِّقها إذًا قالَ قلتُ يا رسولَ اللَّهِ إنَّ لَها صُحبةً ولى مِنها
ولَدٌ قالَ فمُرها يقولُ عِظها فإن يَكُ فيها خيرٌ فستَفعلُ ولا تضرِبْ
ظعينتَكَ كضَربِكَ أُميَّتَكَ. أخرجه أبو داود (142) وأحمد (17846) .
سابعا: ترك تزويج ضراب النساء
عن فاطمة بنت قيس قالت: قال لي رسول
الله ﷺ: إذا حللتِ فآذِنيني فآذنتْهُ
فخطبَها معاويةُ وأبو الجَهمِ بنُ صُخيرٍ وأسامةُ بنُ زيدٍ فقالَ رسولُ
اللَّهِ ﷺ أمَّا معاويةُ فرجُلٌ تربٌ
لا مالَ لَهُ وأمَّا أبو الجَهمِ فرجلٌ ضرَّابٌ للنِّساءِ ولَكن أسامةُ
فقالت بيدِها هَكذا أسامةُ! أسامةُ!
()
فقالَ لَها رسولُ اللَّهِ
ﷺ: طاعةُ اللَّهِ وطاعةُ رسولِهِ خيرٌ
لَك.
قالت: فتزوَّجتُهُ، فاغتبطتُ بِهِ. رواه
ابن ماجه وهو في صحيح ابن ماجه برقم 1527
ثامنا: الإنكار على من يضرب زوجته بلا سبب مشروع
روى أحمد برقم 26339 عن عائشة زوج النبي
ﷺ قالت: أتت سلمى مولاة رسول الله
ﷺ أو امرأة أبي رافع مولى رسول الله
ﷺ إلى رسول الله
ﷺ تستأذنه على أبي رافع قد ضربها.
قالت: قال رسول الله ﷺ لأبي رافع: ((
ما لك ولها يا أبا رافع؟)) قال: تؤذيني يا رسول الله، فقال رسول الله
ﷺ: (( بم آذيته يا سلمى؟)) قالت: يا
رسول الله، ما آذيته بشيء، ولكنه أحدث وهو يصلي، فقلت له: يا أبا رافع، إن
رسول الله ﷺ قد أمر المسلمين إذا خرج
من أحدهم الريح أن يتوضأ، فقام فضربني، فجعل رسول الله
ﷺ يضحك ويقول: (( يا أبا رافع، إنها لم
تأمرك إلا بخير)).
تاسعا: خلع المرأة من زوجها عند الضرب العنيف
روى أبو داوود برقم 2228 عن عائشة، أن
حبيبة بنت سهل، كانت عند ثابت بن قيس بن شماس فضربها فكسر بعضها، فأتت رسول
الله ﷺ بعد الصبح، فاشتكته إليه، فدعا
النبي ﷺ ثابتا، فقال: خذ بعض مالها،
وفارقها، فقال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟، قال: نعم، قال: فإني أصدقتها
حديقتين، وهما بيدها، فقال النبي ﷺ :
خذهما وفارقها، ففعل.
عاشرا: لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته
البعض يحقق مع الزوج في سبب الضرب، وهو
خلاف الحكمة والستر، فقد روي عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (
لَا يُسْأَلُ الرَّجُلُ فِيمَا ضَرَبَ امْرَأَتَهُ ) رواه أبو داود
(رقم/2147)، والنسائي في " السنن الكبرى " (5/372)، وابن ماجه (رقم/1987)
وأحمد في " المسند " (1/275) . والحديث فيه ضعف إلا أن معناه صحيح، قال ابن
قدامة رحمه الله في بيان تعليل هذا
الأثر:
" لأنه قد يضربها لأجل الفراش – أي:
امتناعها عن الجماع -، فإن أخبر بذلك استحيا، وإن أخبر بغيره كذب " "
المغني " (8/163)
ويقول المناوي
رحمه الله: " أي: لا يُسأل عن السبب
الذي ضربها لأجله لأنه يؤدي لهتك سترها، فقد يكون لما يستقبح، كجماع،
والنهي شامل لأبويها " " فيض القدير " (6/515)
ويقول الإمام النووي
رحمه الله: " فصل: يكره أن يُسأل
الرجل: فيم ضرب امرأته من غير حاجة: قد روينا في أول هذا الكتاب في " حفظ
اللسان " والأحاديث الصحيحة في السكوت عما لا تظهر فيه المصلحة، وذكرنا
الحديث الصحيح: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) ". " الأذكار "
(ص/374)
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.