اطبع هذه الصفحة


وما تدبرُ آياته إلا اتباعه بعلمه!

عبداللطيف بن عبدالله التويجري
@twijri_a

 
حين تلقَّى السلف الصالح القرآنَ العظيمَ بعقيدة راسخة مملوءة بالإيمان الجازم أن هذا الكتاب العظيم هو خطاب الله - عز وجل - لهم في هذه الأرض، كانت لهم عناية فائقة به (حفظاً وفهماً وعملاً)؛ يقتدون بالأسوة الحسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان خُلُقه القرآن[1].

وإن المتأمل لتدبُّر هؤلاء السلف للقرآن ليلحظ معنى جميلاً يُبرِز المنهجية العملية لتدبُّرهم ويدور حول لازم هذا التدبُّر وأثره، وهو: الاتعاظ والعمل بما في القرآن.   

ولذلك ظهر هذا المعنى في مقولات كثير من العلماء في أثناء حديثهم عن تدبر القرآن الكريم؛ حيث بيَّنوا هذا المعنى وأكدوا عليه. يقول: سيد التابعين الحسن البصري: (وما تدبُّر آياته إلا اتِّباعُه)[2].

وهذا شيخ المفسرين الإمام الطبري يبين أن التدبر هو تدبُّر حجج الله التي في القرآن، وما شرعه فيه من الشرائع؛ للاتعاظ والعمل به[3]. 

والإمام ابن القيم ينقل عن بعض السلف قوله: (نزل القرآن ليُعمَل به فاتَخَذوا تلاوته عملاً؛ ولهذا كان أهل القرآن هم العاملون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم)[4].

والشيخ محمد الأمين الشنقيطي يبين هذا المعنى أيضاً بقوله: (تدبُّر آيات هذا القرآن العظيم أي: تصفُّحها، وتفهُّمها، وإدراك معانيها، والعمل بها)[5].

فهذا التدبر - كما توحي عبارات هؤلاء العلماء - له لوازم من أهمها: عمل القلب والجوارح بما يتدبره الإنسان، وإلا لم يعد تدبراً سليماً؛ ولذا نجد أن الله – عزوجل - وبخ الكافرين والمنافقين في قوله – تعالى -: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68] ، وقوله - تعالى -: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]  لأنهم لم يتعظوا ولم يعملوا، وهذا من دقة البلاغة اللفظية للقرآن حيث جاءت بهذا اللفظ (التدبر) في سياق خطاب توبيخي للكفار والمنافقين، ولم تأت بمصطلحات أخرى مشابهة مثل: النظر أو الفهم أو التفسير ونحوها؛ لأن هذه الأمور قد يفعلها غير الملتزم بأحكام الإسلام؛ فبعضهم قد ينظر في القرآن وقد يفهم وقد يفسر[6]؛ ولكنه لم يفعل ثمرة إنزال القرآن وأسَّه، وهو: الاتعاظ والعمل.

فالعمل إذن شرط أساس للتدبر؛ لأنه لازم حصول التدبر، وهذا هو الذي يميز التدبر عن غيره من المصطلحات القرآنية الأخرى المشابهة له، مثل: النظر أو التفكير أو الفهم... صحيح أنها قد تتداخل مع التدبر: إما بمعناه اللُّغوي كالنظر في عواقب الأمور مثلاً، أو يدخل بعضها الآخر باللزوم أو الاقتضاء كمطلق التفكير، أو إمعان النظر والتركيز، ونحوه؛ لكن التدبر لا بد له من الاتعاظ والعمل كما سبق[7].
وبصورة أوضح فإن هذا المعنى العظيم يظهر في الطريقة العملية لتلقي هؤلاء السلف للقرآن، والمنهجية العلمية التي يسيرون عليها؛ حيث جاءت الروايات والأخبار عن عدد من الصحابة - رضي الله عنهم – منهم عثمان بن عفان وعبد الله ابن مسعود وأبي بن كعب - رضي الله عنهم أجمعين – أنهم كانوا يأخذون من رسول الله صلى الله عليه وسلم  عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى، حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل قالوا: فتعلمنا العلم والعمل[8].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على هذا الأثر: (تدبُّر الكلام إنما ينُتفَع به إذا فُهِم، قال – تعالى -: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: ٣] . فالرسل تبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، وعليهم أن يبلِّغوا الناس البلاغ المبين، والمطلوب من الناس أن يعقلوا ما بلَّغه الرسل، والعقل يتضمن العلم والعمل؛ فمن عرف الخير والشر، فلم يتَّبع الخير ويحذر الشر لم يكن عاقلاً)[9].
من هذا المنطلق يظهر أن هذا الأثر الشهير الذي دائماً نقرؤوه في الكتب، ونسمعه في المحافل العلمية والتربوية: أنه هو الأسُّ الذي تبنى عليه قضية التدبر؛ حيث إنه وضَّح لنا بصورة جليَّة الطريقة العملية المثلى لتدبُّر كتاب الله، ممن عاصر التنزيل وعرف التأويل؛ حيث بينوا لنا أنهم يتدرجون في أخذ الآيات ويفرقونها على أوقات؛ من أجل أن يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، وبهذا يكونون قد تدبروه حق التدبر؛ فهم يقرؤون لكي يفهموا، ويفهمون لكي يعملوا.

 إن تعلم القرآن وأخذه بهذه الطريقة أدعى للفهم والاستيعاب من غيرها؛ فالله –عز وجل- يقول لنبيه: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} [الإسراء: 106].
وحِرْص سلفنا الصالح على أخذ القرآن بهذه الطريقة المفرَّقة؛ إنما هو بسبب إيمانهم بأهمية ركني التدبر (الفهم السليم ثم العمل) لأنها الطريقة المثلى لتدبر كتاب الله؛ حيث يتلازم العلم والعمل، ولا تكون تلاوته بحق إلا بهذا كما بينه الصحابي الجليل: عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - بقوله: (والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله)[10]. حيث بين - رضي الله عنه - لازم حق هذه التلاوة وهو العمل بما فيه، والعمل لا يكون إلا بالفهم.

وإبرازاً لهذه الصورة العملية فإنه يَحسُن ذكر بعض الأمثلة والشواهد التي جسَّدت هذا المعنى وأبانته من لدن السلف الصالح الأخيار، فلنتأملها ونتأمل كيف اقتضى عندهم العلمُ العملَ، فمن ذلك ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: (تعلم عمر - رضي الله عنه - البقرة في اثنتي عشرة سنة، لما ختمها نحر جزوراً)[11]، فهذا الأثر يبين أن طـول بقـاء عمر - رضي الله عنه - في تعلم سورة البقرة ليس عجزاً ولا انشغالاً عن القرآن؛ بل إنه انشغل بعلمها والعمل بما فيها كما كان عليه عهد الصحابة من أَخْذ عشر آيات وتعلمها؛ وإلا لما جلس كل هذه المدة.

 يشهد لذلك أقواله وأفعاله - رضي الله عنه - فمن أقواله العظيمة قوله: (لا يغرركم من قرأ القرآن إنما هو كلام نتكلم به، ولكن انظروا من يعمل به)[12].

أمَّا أفعاله - رضي الله عنه - عنه فهي كثيرة نذكر منها شاهداً مؤثراً ذكره البخاري في صحيحيه أن رجلاً دخل عليه في مجلسه فقال له: هه يا ابن الخطاب! فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعـــــدل، فغضب حتى همَّ به، فقال له الحــــرُّ بن القيس - رضي الله عنه -: يا أميــر المؤمنـــــــين إن الله - تعالى - قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]  وإن هذا من الجاهلين. يقول ابن عباس – رضي الله عنهما -:  والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله)[13]. وهذا شاهد العملي وقوفه المباشر عند كتاب الله والامتثال له، وهو من ثمرة التدبر.
وهذا الأمر ليس خاصاً بعمر - رضي الله عنه - بل إنه عام في أفاضل الصحابة كما يحكيه ابنه عبد الله - رضي الله عنه - حين يقول: (كان الفاضل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يرزقون القرآن منهم الصبي والأعمى، ولا يرزقون العمل به)[14].

 وكمــــــــا يقوله أيضـــــاً من أُمرنا بأخذ القراءة منه[15]، وهو الصحابي الجليــــــــــــل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حيث يقول في وصفهم: إنَّا صعب علينا حفظ ألفاظ القران، وسهل علينا العمل به، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القران، ويصعب عليهم العمل به[16].

ويبين أثرَ هذا التساهل في هـؤلاء الجيـل الـذي عنــاهم - رضي الله عنه - الأثرُ الذي أخـــرجه الإمام عبد الرزَّاق في مصنفه بسنده إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قدم على عمر - رضي الله عنه - رجل فجعل عمر يسأله عن الناس فقال: يا أمير المؤمنين! قد قرأ منهم القرآن كذا وكذا فقال ابن عباس فقلت: والله! ما أحب أن يتسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة قال: فزبرني (زجرني) عمر، فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفا قال: فقلت: يا أمير المؤمنين! إن كنت أسأت فإني استغفر الله وأتوب إليه، وأنزل حيث أحببت. قال: لتحدثني بالذي كرهت مما قال الرجل. فقلت: يا أمير المؤمنين! متى ما تسارعوا هذه المسارعة يحيفوا؛ ومتى ما يحيفوا يختصموا، ومتى ما يختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا. فقال عمر: لله أبوك! لقد كنت أكاتمها الناس حتى جئت بها[17].
وقد وقع ما خشي منه هذان الصحابيان الجليلان - رضي الله عنهما - فخرج الخوارج الذي ذكرهم صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث متواترة[18]، وخرج أناس شابهوهم أيضاً يقرؤون القرآن ويقيمون حروفه وألفاظه ويأكلون به؛ لكنه لا يجاوز تراقيهم ولا يعملون بما فيه.

ويضيف على ذلك سيد التابعين الحسن البصري بقوله: (إن هذا القرآن قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، ولم يأتوا الأمر من قِبَل أوله. قال الله – تعالى -: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29] ، وما تدبُّر آياته إلا اتِّباعُه؛ ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله، فما أسقط منه حرفاً وقد – والله - أسقطه كله؛ ما ترى القرآن له في خلق ولا عمل وحتى عن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نَفَس، والله ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة، ومتى كانت القراء تقول مثل هذا؟ لا أكثر الله في الناس مثل هؤلاء)[19].
إن منهج السلف الصالح في التدبر بُني على ركنين (الفهم - العمل) لكنه يبرز  في الجانب العملي أكثر؛ لأنهم كما قال ابن مسعود وابن عمر - رضي الله عنهما - في كلامهما السابق: (وسهل علينا العمل به)، (رزقوا العمل بالقرآن)، وهذا الأمر الهام الذي تفقده الأمة اليوم كما جاء في آخر كلامهما: (وإن مَنْ بعدَنا يسهل عليهم حفظ القران، ويصعب عليهم العمل به)، (وإن آخر هذه الأمة يرزقون القرآن منهم الصبي والأعمى، ولا يرزقون العمل به)[20].

ويحسن الإشارة هنا إلى أن حرص السلف - رضي الله عنهم - على أنهم يتعلمون العلم والعمل يحمل دلائل غاية في الأهمية، تكمن في عدة أمور ومقاصد لا حصر لها؛ حيث إنهم بذلك امتثلوا أمر الله - عز وجل - وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في تدبر هذا الكتاب العظيم، الذي يهدي لأقوم سبيل، وأهدى طريق، ثم إنهم استشعروا بركته عليهم وعلى معاشهم ومعادهم، كما وعوها في قوله - تعالى -: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29]،  وقوله - تعالى -: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ 15 يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16]، وقوله - تعالى -: {هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203] . وعرفوا أيضاً أن في قلـوبهم حاجة لا يسدها إلا هذا الأمر من تدبُّر كتابه، وإن فيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بكلامه، والعيش في رحابه.

 وأيقنوا بقوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّـمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] .

وتعلموا من تدبُّرهم ثناء ربهم على من تدبر كتابه، وذمه على من تركه ولم يتأثر به، موقنين أن المدحَ مدح الله والذمَّ ذم الله. ففي الثناء والمدح: {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: ٢]، وقوله: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا 107 وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَـمَفْعُولاً 108 وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109]، وفي الذم والتوبيخ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].

أيقنوا أيضاً أن الإيمان به وتعظيمه، وتدبر آياته هو عين النصيحة لهذا الكتاب العظيم[21]، وأنهم إذا قرؤوه وعملوا به أصبحوا كالأترجة ذات الريح الطيب والطعم الطيب بتشبيه بليغ من حبيبهم وقدوتهم صلى الله عليه وسلم[22].

وبعد: فإن هذه الطريقة العظيمة المثلى في تلقِّي القرآن من أولئك الصفوة الأبرار أظهرت آثارَ هذا الأمرِ عليهم في معاملاتهم وسلوكياتهم، في بيعهم وشرائهم، وحديثهم ومعاشرتهم، وحلِّهم وترحالهم، وحربهم وسلمهم، وفي جميع أحوالهم؛ حتى أصبح واحدهم كأنه قرآنٌ يمشي على الأرض.

ورضي الله عن أسماء بنت أبي بكر حين قالت في وصف الرعيل الأول منهم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرىء عليهم القرآن كما نعتهم الله: تدمع أعينهم وتُقَشعِرُّ جلودهم)[23]، وهذا الأمر عزيز لا يقوى عليه إلا ذوو النفوس العالية، والهمم الرفيعة، والله المستعان.

فإنهم لما طبقوا هذا الأمر، وحملوا راية العمل في تدبرهم تعدت بركتهم إلى غيرهم فأقاموا العدل ونشروه في أرض الله، فأرهبوا أعداء الله، وأخرجوا الناس من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام؛ فحققوا الخير والسعادة لأمتهم ومجدهم[24].

وفي الختام: فهذا غيض من فيض في منهجية هؤلاء الأعلام في تلقِّي القرآن، قصدت الإشارة، فقد يكفي من  القلادة ما أحاط بالعنق! وإلا فالموضوع واسع وتتجاذبه عدة مسائل وأحكام، تدعو الباحثين والدعاة لعمل مزيد من البحوث والدراسات في هذا المجال الذي تحتاجه الأمة اليوم في مسيرتها الإصلاحية، وفيها أيضاً حديث ملحٌّ للقائمين على المؤسسات والمحاضن التربوية من أجل إبراز دور هؤلاء القدوات والتذكير بمواقفهم في التدبر وطريقتهم في ذلك؛ فهم خير القرون وبهم يقتدى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسرد سِيَرِ المتدبرين والتذكير بها في المناشط التربوية سببُ مؤثر في غرس قيمة التدبر لدى الناشئة؛ فأسلوب التربية بالقدوات من أهم الأساليب التربوية وأكثرها مضاء، وهو أسلوب قرآني فريد؛ كما في سرد قصص الأنبياء والصالحين وتلك القدوات للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده} : أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ {[الأنعام: 90]. [25]

 
 
------------------------------------
[1] ثبت ذلك من كلام أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – كما أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم: (1773) عن سعد بن هشام بن عامر قال: سألت عائشة - رضي الله عنها – فقلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم  كان القرآن.  
[2] مصنف عبد الرزاق: (5984).
[3] ينظر: جامع البيان في تأويل القرآن: (23/153).
[4] زاد المعاد، لابن القيم: (1/323).
[5] أضواء البيان: (7/429).
 [6] والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فالكفار والمنافقون يسمعون الآيات ويفهمونها ويدركون إعجازها، ومع ذلك لم تزدهم إلا إصراراً وعناداً؛ بل أعظم من ذلك بعض المستشرقين فسر واستنبط وترجم المعاني وعمل الفهارس؛ كالمستشرق الفرنسي ريجي بلا شير الذي قام بترجمة معاني القرآن إلى اللغة الفرنسية، وله كتب عن القرآن والإسلام، والمستشرق الألماني تيودور نولدكه الذي كتب رسالة دكتوراه عن تاريخ القرآن! والمستشرق المجري الشهير: جولد تسيهر الذي كتب عدة دراسات عن الإسلام، وعن تفسير القرآن! ولكن كل ذلك لم يغن عنهم شيئاً؛ بل هم داخلون في التوبيخ القرآني لعدم امتثالهم له بعدما عرفوه؛ وصدق الله العظيم: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)؟ ينظر: موسوعة المستشرقين، للـدكتور: عبد الرحمن بدوي، دار العلم، بيروت.
[7] ينظر كتاب: مفهوم التدبر في ضوء الدراسة التحليلية لآياته في القرآن، للدكتور: محمد زيلعي هندي، وكتاب: مفهوم التدبر..تحرير وتأصيل، إشراف: مركز تدبر، ص (209).
[8] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: (6/117)، والإمام أحمد في مسنده: (38/466)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار: (4/82)، والبيهقي في سننه الكبرى: (3/119)، وابن جرير الطبري في تفسيره: (1/74) وغيرهم.
ومدار هذا الأثر على عطاء بن السائب، وكان قد اختلط، وقد روى ابن وضاح في البدع: (2/170)، والفريابي في فضائل القرآن: (ص: 241)، والرازي في فضائل القرآن وتلاوته ص ( 127)، وابن سعد في الطبقات الكبرى: (6/172) هذا الأثر من طريق حماد بن زيد عن عطاء، ورواية حماد عنه صحيحة؛ لأنها قبل اختلاطه كما ذكر ذلك ابن حجر في تهذيب التهذيب: (22/207)، ونصَّ عليه أيضاً بعض الحفاظ، منهم: يحيى القطان والبخاري والعقيلي والنسائي، وغيرهم. (ينظر: ميزان الاعتدال، للذهبي: (3/71).  قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: (17/408): (وهذا أمر مشهور رواه الناس عن عامة أهل الحديث والتفسير، وله إسناد معروف).
[9] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (15/108).
[10] أخرجه الطبري في تفسيره: (2/567)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة: (1/397).
[11] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: (3/346)، وينظر تفسير القرطبي: (1/40).
[12] رواه الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل: (71).
[13]  ينظر صحيح الإمام البخاري، حديث رقم: (4642).
[14]  أخلاق أهل القرآن للآجري، ص (10). 
[15] أخرج الإمام مسلم في صحيحه (6488) عن مسروق قال: كنا نأتي عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -  فنتحدث إليه - وقال ابن نمير عنده - فذكرنا يوماً عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فقال: لقد ذكرتم رجلاً لا أزال أحبه بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: (خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ – فَبَــــــدَأَ بِهِ - وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأُبَي بْنِ كَعْبٍ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبي حُذَيْفَةَ).
[16] مقدمة أحكام القرآن، للقرطبي: (1/40)، ومن المفيد مراجعتها؛ حيث ذكر القرطبي أكثر من أثر يدل على أهمية العمل بالقرآن، وعقد باباً في ذلك.
[17] مصنف عبد الرزاق (20368)، باب: الخصومة في القرآن.
[18] قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (3/279).
[19] مختصر قيام الليل، للمروزي، ص (176)، والزهد لابن المبارك، ص (274).
[20] أخلاق أهل القرآن للآجري، ص (10).
[21] كما في حديث تميم الداري - رضي الله عنه -  الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان: حديث رقم: (95)  أن النبي صلى الله عليه وسلم  قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ». قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ». قال أبو عمرو بن الصلاح: (النصيحة لكتابه: الإيمان به وتعظيمه وتنزيهه، وتلاوته حق تلاوته، والوقوف مع أوامره ونواهيه، وتفهُّم علومه وأمثاله، وتدبُّر آياته، والدعاء إليه، وذب تحريف الغالين وطعن الملحدين عنه). جامع العلوم والحكم، لابن رجب، ص (80).
[22] أخرج البخاري في صحيحه: (5059) عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: (الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ أَوْ خَبِيثٌ وَرِيحُهَا مُرٌّ).
[23] أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره: (18383)، وينظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: (15/249).
[24] ينظر قصة الصحابي الجليل: ربعي بن عامر - رضي الله عنه - ودخوله على رستم أمير الفرس قبل غزوة القادسية في كتاب: البداية والنهاية، لابن كثير: (9/622).
 [25] ينظر: كتاب: تعليم تدبر القرآن الكريم، للأهدل: (ص: 128). 
 

 

عبداللطيف التويجري
  • مقالات قرآنية
  • كتب ومؤلفات
  • مقالات نقدية
  • مقالات علمية
  • خواطر وتأملات
  • خطب
  • مواد مرئية وسمعية
  • متفرقات
  • الصفحة الرئيسية