يا أماه .. أبشري فقد قبل المهر وزُفت العروس |
|
سلمان بن يحي المالكي |
غادةٌ ذاتُ دلال ومــرح يجد الواصفُ فيها ما
اقترح فاشتاق الناس إلى الجنة ، وارتفع بكاء بعضهم ، ورخُصت عليهم أنفسهم في سبيل الله ، فوثبت عجوز من بينِ النساء هي أمُ إبراهيم البصري فقالت : يا أبا عبيد ، أتعرف ابني إبراهيم الذي يخطبه رؤساء أهل البصرة إلى بناتهم وأنا أبخل به عليهن ؟ قال : نعم ، قالت والله ، قد أعجبني حسن هذه الجارية ، وقد رضيتها عروسا لابني إبراهيم ، فكرر ما ذكرت من أوصافها ، فقال أبو عبيد
إذا ما بدت والبدرُ ليلةَ ثمِّـــــه رأيتَ لها
بدار مبينا على البــدر
فلما سمع الناس كلُ ذلك اضطربوا وكبروا وقامت أمُ
إبراهيم وقالت يا أبا عبيد : قد رضيت والله بهذه الجارية زوجة لأبني إبراهيم ،
فهل لك أن تزوجه إياها في هذه الساعة ، وتأخذ مني مهرها عشرة آلافَ دينار ، لعل
الله أن يرزقه الشهادة فيكون شفيعا لي ولأبيه يوم القيامة ، فقال أبو عبيد لئن
فعلت ، فأرجوا والله أن تفوزوا فوزا عظيما ، فصاحت العجوز يا إبراهيم ، يا
إبراهيم ، فوثب شاب نضر من وسط الناس وقال : لبيك يا أماه ، فقالت : أي بني أرضيت
بهذه الجارية ، زوجة لك ، ومهرها أن تبذل مهجتك في سبيل الله ، فقال : أي والله
يا أماه ، فخرجت العجوز واتجهت إلى بيتها مسرعة وأخذت عشرة آلاف دينار ووضعتها في
حجر أبي عبد الواحد بن زيد ، ثم رفعت بصرها في السماء ، ثم قالت : اللهم إني
أشهدك أني زوجت ولدي من هذه الجارية ، على أن يبذل مهجته في سبيلك فتقبله مني يا
أرحم الراحمين ، ثم قالت : يا أبا عبيد ، هذا مهر الجارية عشرةُ آلاف دينار ،
تجهز به وجهز الغزاة في سبيل الله ، ثم انصرفت واشترت لولدها فرسا حسنا وسلاحا
جيدا ، ثم أخذت تعد الأيام لمفارقته وهي تودعه ، فلما جاء وقت الخروج ، خرج
إبراهيم يعدوا والمجاهدون حوله يتسابقون ، والقراء يقرؤون " إن الله اشترى من
المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون
.." [ التوبة ] ثم نظرت إليه لما أرادت فراقه ، ودفعت إليه كفنا وطيبا وقالت له :
يا بني إذا أردت لقاء العدو فالبس هذا الكفن ، وتطيب بهذا الطيب ، وإياك أن يراك
الله مقصرا في سبيله ، ثم ضمته إلى صدرها ، وكتمت عبرتها ، وأخذت تشمه وتودعه
وتقبله ، ثم قالت : اذهب يا بني فلا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه يوم
القيامة ، فمضى إبراهيم ، حتى غاب عن بصرها ، فلما برزوا للعدو والتقى الصفان ،
أسرع إبراهيم إلى المقدمة فابتُدأ القتال ورُميت النبال ، وأخذ إبراهيم يصول بين
العدو ويجول وقاتل قتال الأبطال ، حتى قتل أكثر من ثلاثين من جيش العدو ، فلما
رأى العدو ذلك ، أقبل عدد منهم فاجتمعوا عليه ، هذا يطعنه وهذا يضربه وهذا يدفعه
وهذا يقاتل وقاوم حتى خارت قواه ووقع من فرسه فقتلوه ، وانتهت المعركة وانتصر
المسلمون وهزم الكافرون ، ثم رجع الجيش إلى البصرة ، فلما وصلوا إليها ، تلقاهم
الناس ، الرجال والأولاد والنساء وأم إبراهيم بينهم ، تدور عيناها في القادمين ،
فلما رأت أبا عبيد قالت له ، يا أبا عبيد : هل قَبِل الله هديتي فأُهنا أم ردت
عليّ فأُعزّا ، فقال لها : بل والله قد قبل الله هديتك ، فصاحت قائلة : الحمد
الله الذي لم يخيب فيه ظني وتقبل نُسُكي مني ، ثم انصرفت إلى بيتها وحدها ، بعد
ما فارقت ولدها ، فنامت تلك الليلة كعادتها ، فلما أصبحت جاءت إلى أبي عبيد في
مجلسه ، فقالت : السلام عليك يا أبا عبيد بُشراك بشراك ، قال ما زلتِ مبشَرَة
بالخير ، يا أمَ إبراهيم ما خبرُك ؟ قالت يا أبا عبيد : نمت البارحة فرأيت ولدي
إبراهيم في المنام في روضة حسناء وعليه قبة خضراء وهو على سرير من اللؤلؤا على
رأسه تاج يتللألأ وهو يقول : يا أماه أبشري قد قُبل المهر وزُفت العروس .. |