اطبع هذه الصفحة


كلمةٌ في التمذهب .. ضرورته وجنايات بعض أتباعه

مشاري بن سعد الشثري
@m_alshathri

 
بسم الله الرحمن الرحيم


لا ريبَ عندي أنَّ التمذهبَ أعدلُ المناهج الفقهية التحصيلية، وذلك أن التلقِّيَ الفقهيَّ لا بد أن يكون ممنهَجًا عبر نظام فقهي محكم قائم على أصولٍ ثابتةٍ مستقرةٍ، أيًّا كان ذلك النظام، حنفيًّا أو مالكيًّا أو شافعيًّا أو حنبليًّا، ولا يقارب تلك الأنظمة المنهجية أيُّ نظامٍ، فضلًا عن مزاحمته إياها أو تقدمه عليها، وذلك أنَّ لهذه الأنظمة كتبًا محررة، عُنِي بها أصحابُها، وتصدوا لشرحها والاستدلال لها، وتعاقبتْ عليها طبقاتٌ متنوعة وعقولٌ متوافرة، ووُضِعت لكل مرحلة كتبٌ تليق بطلابها، فهي مدارس في التفقه وأنظمة في التلقي يترقَّى فيها الطالب شيئًا فشيئًا إلى أن ينال منصب الاجتهاد.

وها هنا مُجمَلَاتٌ هي في حقيقتها مقولاتٌ تأسيسيةٌ في هذا السياق، وهي:

1. مقابلة المذاهب بما يسمى (فقه الدليل) وما رادفه ضربٌ من شطط الرأي وإزراءٌ بمقامات عامَّة الفقهاء عبر القرون.

2. فقه الأئمة الأربعة امتدادٌ وافٍ لمذاهب السلف الماضين من الصحابة والتابعين، وفقه المذاهب المضافة إليهم نقلٌ أمينٌ لفقههم، ولا يكدِّر على ذلك وجود فروع وأصول قابلة للنظر والبحث في مدى دقة هذا النقل أو ذلك الوفاء.

3. امتياز المذاهب الأربعة نابعٌ من قوتها المنهجية، وانضباط نظامها الاستدلالي، واطراد فروعها في الجملة، لا لمجرد كونها فهرسًا وافيًا لمسائل الفقه، فالأخذ بالتمذهب أخذٌ لنظامٍ وليس أخذًا لقائمةٍ فقهية مختارة على غير منهج.

4. التمذهب نظام اجتهاد، وليس مجردَ قالب تقليد، ففيه يترقَّى الطالب من مرتبةٍ لأخرى، وكلما ترقى في تمذهبه تخلَّص من شعبة تقليدٍ ونال شعبةَ اجتهاد، فهو في البدء يتلقى الفرع تلقيًا عن جهالة، غرضه في ذلك تشكيل أرضية فقهية أولى، وفي المنتهى يقبله أو يخالفه عن علم ودراية، غرضه في ذلك تحقيق بنائه الفقهي وتحرير لبناته.

وكون التمذهب نظامَ اجتهادٍ لا يعني بالضرورة إفضاءَه بالمتمذهب إلى مخالفة مذهبه، وإنما يؤهله لتداولٍ أكثرَ وعيًا ورشدًا في بحثه وتلقيه، 
وذلك الوعيُ قد يجره إلى المخالفة اتباعًا
 لدليل أو طردًا لقاعدة -ولا يخرج بذلك عن كونه متمذهبًا- كما أن ذلك الوعي قد يقوي من تمسك المتمذهب بمذهبه .. ومَن سار في تمذهبه سيرة منهجية منتظمة فلن تكون مخالفاته كثيرةً ولا غالبةً إذا ما قورنت بموافقاته، شأنُه في ذلك شأنُ كثيرٍ من المجتهدين المنتسبين للمذاهب.

*****

إذا تقرَّر ما مضى فها هنا بعضُ جناياتٍ يجترحُها بعضُ المنتسبين للتمذهب، ويسعون جاهدين في ربطها بالتمذهب حين دعوتهم إليه، أو يُعلَم ذلك من حالهم حين النظر في طريقة تربيتهم المذهبية وتدريسهم الفقهي، وأبرزها ثلاث جنايات:

الأولى: الجناية على منصب الاجتهاد:

وذلك حين تراهم يقعدون بالمتمذهب عن تطلب رتبة الاجتهاد، تصريحًا أو تلميحًا، في أول أمره ومنتهاه، خشيةً عليه -زعموا- من التعجل في التحصيل وتطلب رياسة الاجتهاد
 واقتراف جُنحَة مخالفة المعتمد، ففروا من بليَّةٍ لأشنع منها، وكان عليهم أن يفقهوا طبيعة التعلم والتعليم، وأن يدركوا أن منهج التلقي لا بد أن يراعي جُمَلًا من الملكات لا ينبغي أن يَغلِبَ بعضها على بعض، فالخوف على الطالب من افتياته وجَورِه على مقرَّرات مذهبه لا ينبغي أن يكون مفضيًا إلى افتياته على مقاصد شرع ربه الدالةِ على فضيلة الاجتهاد وعلو مكانته، القاضيةِ بلزوم قصد حكم الله ورسوله وطلبهه بالدلائل والحجج وسعي الناظر في بلوغ تلك الرتبة والمكانة العليَّة.

ولا أعني بذلك أن يُلقَّنَ في البدء حروف الاجتهاد، ولا يُجرَّأَ على مخالفة مذهبه، فليس بسبيلٍ أن يُنشَّأ الطالب ابتداءً على تجاوز المذهب المقرَّر بعرض جميع أقواله تحت النظر، بحيث تتولد لدى الطالب شكوكٌ تنزع ثقته بأقوال مذهبه شيئًا فشيئًا ما يقذف به في حيرة مضنية، فإن هذا مضرٌّ ضررًا بالغًا له في بداية تلقِّيه، والوجهُ أن يُلقَّن الطالب الفقهَ عن طريق مذهبٍ حتى يُتقن أصوله ويضبط فروعه ويقف على مآخذه، فهذا أدعى لانضباط بنائه الفقهي وتماسكه، لكن مع مراعاة أن يُلقَّنَ ذلك كلَّه بالقدر الذي يحفظ له توازنَه التحصيلي في جميع مراحل تعليمه، ولا يجعله منكفئًا على مذهبه وتقليده وكأنَّ الحقَّ لا يغادر مسائله ومقرراته، بل يُمرَّن في كل مرحلة على ما تتطلبه من ملكات اجتهادٍ بالقدر الملائم لطبعه وقدرته، كما كان علماء مذهبه بطبقاتهم يترقَّون في تمذهبهم من منزلةٍ لأرفعَ منها. وهو إذا تلقى الفقه على هذا النحو على يد فقيهٍ متمكن ومربٍّ حكيم كان ذلك أدعى لتمسكه بمذهبه وخبرته بمكوناته، حتى إنه لا يخرج عنه حتى تضطره الحجج إلى ذلك.

*****

الثانية: الجناية على فقه المتقدمين:

وذلك بقصر تحصيل الطالب وقراءته ودراسته على كتب المتأخرين من علماء مذهبه، وليس الإشكال هنا في كتب المتأخرين، فإنها عصارةٌ لكتب الفقه جامعةٌ لنتائجها، وفيها تحرَّرت المذاهب واستقرَّت، غير أنها لا تغني عن كتب فقهاء المتقدمين.

وجملة ذلك أنه قد هلكت في ثنائية (كتب المتقدمين/كتب المتأخرين) طائفتان:

- طائفةٌ ترى أن الفقه في كتب المتقدمين، وأمَّا المتأخرون فحادوا عن سبيل سلفهم وكان فقههم أجنبيًّا عن مقرراتهم مخالفًا في جملته لنصوصهم والمنقول عنهم.
- وطائفةٌ ترى أن في كتب المتأخرين الغناءَ عن كتب المتقدمين، ولن يجد الطالب في كتب مَن تقدَّم مسألةً أو أصلًا فائتًا على من تأخرَّ.

وكلٌّ من الطائفتين غالطٌ جانٍ:
- أمَّا الطائفة الأولى فأزرت بالمتأخرين حين قطعت الصلة بينهم وبين سلفهم، والواقع أن كل ما قدموه إنما هو امتدادٌ أمين لكتب متقدميهم يعلم ذلك مَن طالع فقههم وتتبعه.
- وأمَّا الطائفة الثانية فأزرت بالمتقدمين حين سوَّغت بكلامها الصدودَ عن كتبهم والاستغناء عنها.

والحقُّ الذي تنكَّبته الطائفتان هو النظرُ في كتب كل طبقة وما تؤديه من دور تفقيهي، لا أن يُفتَعَلَ الصراع بينهما، وبيان ذلك أن لكلٍّ من كتب المتقدمين والمتأخرين وظيفةً ودورًا في التأهيل الفقهي، فالطالب يجد في كتب المتقدمين ما لا يجده في كتب المتأخرين، والعكس صحيح:

فكتب المتأخرين فيها نتائج الفقه وخلاصاته، فهي تضبط للطالب صورة الفقه الأخيرة وتمكنه من ضبطِ جمهور الفروع والمسائل.
وأمَّا كتب المتقدمين ففيها جوهر الفقه ورونقه، فأنتَ ترى فيها أصول الفقه وفروعه في بدء تشكلها مستخلصةً من جذورها في ضمن الملاقحات الكائنة في أطوار الفقه الأولى، وهذا يُطلِعُ المتفقه على طريقة بناء الفقه ويرشده إلى مناهج المتقدمين في استنباط المسائل، وهذا من شأنه أن يمكِّن المتفقه من الحذق بأصول المسائل، ووجوه الحجج، وعُمد الدلائل، ويحسِّن من ملكة تعاطيه مع النصوص والآثار وما عليه العمل عند المتقدمين في فتاويهم وأقضيتهم، ولئن كانت كتب المتأخرين قد حوت فروع كتب المتقدمين إلا أن للفروع في كتب المتقدمين شأنًا خاصًّا إذا ما لوحِظَ امتياز تلك الكتب في بناء الفقه ووضع أسسه وأصوله.

وأدنى مقارنة بين بابٍ من الفقه في كتابٍ متقدمٍ وآخرَ متأخِّرٍ تجلي لك ذلك، وهذا ما لا تكفي في بيانه العبارة.

والعجب أن بعض أهل التمذهب يقطعون صلةَ الطالب -مهما علت رتبته وتقدمت مرحلته- حتى بكتب أئمته، فقلَّما ترى الحنفي ملتفتًا لـ «الحجة» لمحمد بن الحسن، والمالكي معانيًا لمشكلات «المدونة»، والشافعي مرتاضًا بـ «الأم»، والحنبلي دارسًا لـ «مسائل» أحمد.

وحجة بعضهم في ذلك أن تلك الكتب تضم المعتمد وغيره، وغفلوا عن أن الأمر وراء ذلك كله، وأن في كتب المتقدمين من الفقه ما لا تفي بمعشاره كتب المتأخرين حسبما تقدمت الإشارة إليه، ففي هذه الكتب ينفذ المتفقه إلى عقول هؤلاء الأئمة وطرائقهم في رسم المسألة والعبارة عنها والبرهنة لها، وأمَّا كتب متأخري أتباعهم ففيها خلاصة فقههم وعصارة نتائجهم، وشتان ما بينهما.

فالسبيلُ إذًا أن ينشَّأَ الطالب على ضبط معتمد مذهبه في جمهور المسائل وأصول الأبواب، ويُدعَى بعد ذلك للنهل من المعين الأول ليتفقَّأَ فقهُه تحقيقًا وتحريرًا، ويَعرِفَ الفقه كيف هو على لسان أئمة المتقدمين الذين هم سادة الفقهاء وسراتهم.

*****

الثالثة: الجناية على أعيان الفقهاء المعاصرين:

يستعذب بعض المنتسبين للتمذهب تربيةَ طلابه على التنقيص من أقدار الفقهاء المعاصرين لكونهم لم يسيروا في تفقههم وتفقيههم على نحو ما يقررونه، فتراهم يلهجون بأن هؤلاء المعاصرين لم يسيروا على طرائق أهل العلم، أو أنهم (متمجهدون) وغير ذلك من العبارات المجافية لأدب العلم، يريدون بذلك النأيَ بالطالب عن التلمذة لهم أو القراءة في كتبهم، وفي بعض كلامهم ما يتسع ليشمل عيونَ فقهاء العصر وأعيانَهم ما داموا ليسوا ملتزمين بالمذاهب الالتزامَ الذي يقررون!

وأيًّا ما كان قصدهم، وأيًّا ما كان عليه المعاصرون، فإن تنشئة الطالب ولا سيما في ابتداء تلقيه على صفة (الإزراء) يحيد به عن جوهر العلم إلى شهوة الجرح، ومن أجل ذلك نشأت في الآونة الأخيرة ظاهرةٌ بائسة ترى فيها كثيرًا من مبتدئي التفقه لا يحسنون من الفقه إلا اللهج بأن فلانًا لا ينبغي البداءة بكتبه لأنه ليس متمذهبًا، ولا الدراسة عنده لما يورثه الطالب من التشتت، ونحو ذلك من العبارات الواسعة الأثواب على أجساد المبتدئين، وهؤلاء المبتدئون ليس لهم من التمذهب إلَّا التظاهر به، فهم اتخذوا من المذهب شعارًا لا منهجًا، واستغنوا بشهواتهم في تقييم الكبار عن الجد في تحصيل الفقه على وجهه.

وهذا كله مما يضر بالتمذهب والدعوة إليه، ويشوِّه من مسيرته إذا كان هذا شأن حملته وطلابه.

وختم ما أنوِّه به أن ينظر القارئ في هذه الكتابة بجملتها، حتى يفقهَ مراد الكاتب على وجهه، ولا يحيفَ على التمذهب، بل يكونَ وسطًا بين الغالي فيه والجافي عنه، محصِّلًا الفقهَ على وجهٍ يُحسِنُ فيه التقليدَ إنْ هو قلَّد والاجتهادَ إنْ هو اجتهد، وجهٍ يجمع فيه بين الضبط والتحقيق، بين اغتنام جهود المتأخرين وتحقيقات المتقدمين وحفظ أقدار المعاصرين.

20  10  1438هـ

 

مشاري الشثري
  • سلسلة طالب العلم
  • مقالات في التربية
  • مقالات متفرقة
  • مقالات منهجية
  • مقالات نقدية
  • الصفحة الرئيسية