اطبع هذه الصفحة


قراءة في عقليّة الطاهر بن عاشور المقاصدية

 

خبَّاب بن مروان الحمد
@khabbabalhamad


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله واهب كل نعمة، والموفق إلى كل خير، والملهم لكل صواب، والهادي إلى كل رشاد، وبعد:
من المعلوم أنّ كتاب مقاصد الشريعة للطاهر بن عاشور من أكثر الكتب المُعاصرة شهرة، حتّى إذا ذُكِرَ علم المقاصد في عصرنا ينصبّ ذهننا دونَ وكدٍ إلى ما كتبه العلاّمة التونسي المقاصدي: محمد الطاهر بن عاشور في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية).

غير أنّ الكتاب حاز مُقدّمة ضافيّة تقع في قرابة مائة وستين صفحة؛ كتبها الذي قام بتحقيق الكتاب وتدريسه وهو د. محمد الطاهر الميساوي، وفي مقدمة الكتاب إشادات وإفادات علميّة تزيد من أهميّة الكتاب والمؤلف؛ لما كان فيها من اهتمام حثيثٍ بعرض طبيعة التفكير العلمي الموضوعي لدى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور – رحمه الله -.

وقد ذكر المحقق أنّ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (1296 – 1393 هـ / 1879 – 1973م) له سيرة حافلة تغذّت في منبت العلم المُتوطّد في أكنافه كابراً عن كابر، وانصقلت عبر السنين بجدٍ لا يفتر، وكان لديه جودة حفظ، ونفاذ ذهن، وصفاء بصيرة، وزادها نُضجاً تجارب ثرّة في العمل الاجتماعي العام، وخاصّة في مجال التربية والتعليم.

وقد نقل المحقق نقولات عن صديق الشيخ الطاهر بن عاشور وهو الشيخ محمد الخضر حسين وذهابهما سويّة للعلم وطلبه عند بعض شيوخ الجامع في تونس، وكذلك مديح الشيخ محمد البشير الإبراهيمي للشيخ الطاهر بن عاشور حيث قال عنه أنّه فقيه متبحر.

وللشيخ الطاهر بن عاشور عناية بعلم الحديث فهو حافظ لكثير من متونه وله إسناد عزيز روى به أحاديث البخاري ومسلم، هذا إلى تحقيقاته وشروحه على مرويات الإمامين مالك وأبي عبد الله البخاري.

أما في الفقه فله قدم راسخة في كتابه المقاصد، وكذا في تحقيقه لكتاب تنقيح الفصول في الأصول للقرافي.

كما أنّه كانت له عناية بالفلسفة والمنطق، وكان كتاب النجاة من جملة الكتب التي درسها بجامع الزيتونة جنباً إلى جنب مع المقدمة لابن خلدون.

وله كتب كثيرة تراكم عليها غبار السنين قابعة لا تزال في رفوف المكتبة العاشورية في تونس، وكأنما تواطأت صروف الزمان على تغييب معلم من معالم الحياة الفكرية، فالرجل لم يلق حظّه بحق كما قال الشيخ الراحل محمد الغزالي – رحمه الله -.

• محنة التجنُّس بالفرنسيّة:


تحدث المحقق عن مسألة استخدمت ذريعة لتشويه الطاهر بن عاشور والحط من قيمته، وهي مسألة التجنيس ففي أكتوبر 1910م صدر قانون التجنس الذي يُخوّل المواطن التونسي الحصول على الجنسية الفرنسية؛ لسعي الفرنسيين على تذويب المسلمين في ثقافتها، وقد قاومتها جُملة من القوى الوطنية، ومع تزايد قوى المقاومة، فقد سعى رأس السلطة الاستعمارية في البلد لاستصدار فتوى من علماء الشرع تُسوّغ مبدأ التجنس، وكان نص السؤال على نحو يُيسر توريط المستفتى إذا كان متساهلاً في الفتوى غيرَ مدقق فيما يعرض عليه من المسائل، وكان جواب الحنفية جواز ذلك إذا حضر لدى القاضي الشرعي ونطق الشهادتين وأعلن أنه مسلم وبناء عليه لو مات فيُصلّى عليه ويُدفن في مقابر المسلمين.

أما فقهاء المالكية فقد جاءت فتواهم مختلفة إذ إنهم أضافوا شرطاً آخر؛ فأعلنوا أنّه يتعين على المتجنس عند حضوره لدى القاضي التصريح في الوقت نفسه بأنه يتخلى عن الجنسية التي اعتنقها.

ولكن (منصورون) الذي كان وزير خارجية بلاده تعذر عليه نشر الجوابين؛ لأنهما لا يتماثلان؛ ونص فتوى المالكية يجعل من المستحيل الإقدام على نشرهما؛ خاصّة أن فتوى الحنفية ليست ذات قيمة في حذ ذاتها لأنّ الأغلبية الساحقة من التوانسة ينتمون للمذهب المالكي.

لكن بعض الأطراف السياسية كانت قد أشاعت أن الطاهر بن عاشور أفتى بجواز التجنس استجابة لضغط الحكومة على المجلس الشرعي، ولكن تصدي القوى الوطنية وتعبئتها الرأي العام ضد قانون التجنس قد أفسد عليه أمره.. وكل هذه الإشاعات لم نجد من الطاهر بن عاشور رداً عليها أو تبرئة لساحته؛ وإنما مضى في عمله الإصلاحي تاركاً للتاريخ الحكم له أو عليه.

وفي تفسير دواعي البلبلة والإشاعة الذي أحاط بفتوى التجنس وما نتج عنها من تشويه لعلماء الزيتونة عموماً؛ وللشيخ ابن عاشور خصوصاً... يذهب الدكتور بلقاسم الغالي إلى أنّه " ليس من الغرابة أن تصدر الشائعات لتعمل علمها وتثير البلبلة حول رجال العلم، وقد كان من أهداف الاستعمار الفرنسي جعل الهوّة تتسع بين الأمّة وعلمائها... فلابد من إطفاء شعاعهم".

وبناء عليه لا يُستغرب أن تتعمد السلطات الفرنسية الاستعمارية ممثلة في المقيم العام الفرنسي، وبعض الأطراف المحلية المتواطئة معها حجب فتوى المجلس الشرعي المالكي الذي كان الشيخ ابن عاشور رئيسه كما كان في الوقت نفسه شيخ الإسلام المالكي.

ولعله يُمكن القول أنّ رجال المجلس الشرعي لاذوا بالصمت وخاصّة المالكيون منهم ولم ينشروا الفتوى؛ ليضعوا حداً لتلك الحالة من اللغط والإشاعة التي استهدفت تشويه سمعتهم شخصياً فيريحوا ويستريحوا؛ ولعل الجواب عن هذا التساؤل إذا أخذنا بالحسبان ما كان يُمكن أن يحدث إزاء تصرف كهذا من رد فعل من قبل السلطات الاستعمارية بصورة خاصة التي يبدو أنه كان تفاهم بينها وبين بعض الأطراف المحلية على تمرير مسألة التجنيس؛ وليس بعيداً أن نشر الفتوى سيزيد من غضب الجماهير وثورتها؛ الذي سيُواجه بالبطش والفتك بالمواطنين.

• ابن عاشور وهموم الإصلاح:


سعى ابن عاشور من خلال رؤية إصلاحية شاملة لكل العلوم التي كانت تُدرٍّس في جامعة الزيتونة وفي نظائرها كالقرويين والأزهر؛ وذلك خلال نصف قرن سعياً وتعاوناً مع المبادرات الرامية لتنظيم هياكل التعليم، ومن ذلك إصلاح اللغة حيث كانت صلة تلامذة جامع الزيتونة باللغة الفرنسية والثقافة الأوروبية أوثق وأعمق من صلتهم باللغة العربية والثقافة الإسلامية.

وكانت تجربة الطاهر بن عاشور تجربة تجاوزت الفصام بين تيار الأصالة ويُمثّله جامع الزيتونة وتيار المعاصرة الذي كانت المدرسة الصادقية حينها رمزه.

وحين قام ابن عاشور بممارسة التعليم الإسلامي مدرساً بجامع الزيتونة والمدرسة الصادقية؛ لم يؤكد هذا لديه إلاّ القناعة الحقيقية بضرورة الإصلاح وتصميمه على المضي فيه فقد بدأ يُهذّب في كتابه المعروف بـ: (أليس الصبح بقريب؟) الذي بدأ تأليفه في صيف 1902م؛ وبدأ يُراجع كتابه على مدار الأصياف الثلاثة حتى استوى كتابه؛ وشمل كثيراً من جوانبه النظام التعليمي ودرجاته ومواده والكتب المعتمدة في التدريس والمدرسين من حيث تأهيلهم ومدى مناسبتهم لدرجات التعليم ومستويات الدارسين.

ولقد اندرجت حركة الإصلاح التي قام بها ابن عاشور ضمن سياق حركة الإصلاح التي سرت في تونس وفي العالم الإسلامي عامة منذ منتصف العقد الخامس من القرن التاسع عشر الميلادي في ظل إمارة المشير أحمد باي.

وقد لخّص ابن عاشور أسباب تأخر التعليم الإسلامي والعلل التي أصابته من (أسباب عامة قضت بتأخر المسلمين على اختلاف أقاليمهم وعوائدهم ولغاتهم، وأسباب راجعة إلى تغير نظام الحياة في أنحاء العالم تغيراً استدعى تبدل الأفكار والأغراض والقيم العقلية مما استدعى تغير أساليب التعليم ومقادير العلوم المطلوبة وقيمة كفاءة المتعلمين لحاجات زمانهم).

وقد قدّم الطاهر بن عاشور في كتابه عرضاً وافياً للأطوار التاريخية التي مرّ بها التعليم الإسلامي ومؤسساته في مختلف ربوع دار الإسلام عبر القرون، وذكر أنّ الاهتمام به يزداد والحاجة إلى دراسته تشتد عند ابتداء النهضة حين يشعر الناس بوجوب تأريخ حالهم لوزانٍ مستقبلهم بماضيهم.

ولما كانت العلوم في نشوئها ونموها وتكاملها مرتبطة بحاجة الحياة الاجتماعية إذ تختلف أعدادها باختلاف الحاجات الداعية إليها؛ فإن دراسة تاريخ العلوم للوقوف على أحوال تطورها وأطوار نموها ولتحديد علل قصورها وأسباب تقهقرها، تصبح مطلباً رئيساً من مطالب أية محاولة للنهوض والإصلاح.

ويشترط ابن عاشور فيمن يقوم بمثل هذه الدراسة النقدية التقويمية للتعليم الإسلامي أن يكون مِمّن أنشأه ذلك التعليم نفسه عارفاً بحاجات الزمان وغايات العلوم نظّاراً إلى الروح لا إلى الجثمان، بعيداً عن درجة السفاسف، خبيراً بما أصاب مزاج التعليم من العلل وبأنواع أدويتها.

كان العلاّمة الطاهر بن عاشور حريصاً على تتبع الحركة العلمية الإصلاحية في تونس، دراسة أفول العلم، ولكنّه مع هذا كان يضع بصماته في قضايا قد لا ينتبه لها أيّ منتبه ليُبرز من خلالها أهميّة تحكّم العلماء والولاة الفضلاء؛ فقد نقل ابن عاشور عن الوزير ابن السرّاج في تاريخه: (الحلل السندسية بالأخبار التونسية) أن وباءين أصابا تونس في عامي 1053ه،، و1100 قد ذهبا بالعلم بما كان فيهما من قبض العلماء، ولكن ابن عاشور يُعقّب عليه بأنّ إهمال الدولة وتحكم الجهلة الموجهين من البلاد التركية قد كان أوبأ له – أي للعلم – من هذين الوباءين، وأنّ الاستبداد بالسلطة وإهمال الدولة لجانب العلم وشد المظالم التي غلّت العقول، كلها كانت أسباباً لموت مرابع العلم).

وهو بهذا لا يتردد في القول أنّ الاستبداد السياسي بالسلطة والظلم للرعية والاضطراب السياسي والاجتماعي وغلّ العقول هي العوامل المؤدية إلى تدهور العلم وانحساره.

والحقيقة أنّ يمكن أن نلاحظ هنا أن مفهوماً أساسياً ينتظم هذه الاعتبارات جميعاً، ألا وهو مفهوم الحرية الذي احتل مكانة عالية في تفكير الشيخ ابن عاشور واهتماماته، حتى جعلها أصلاً من أصول نظام الاجتماع الإنساني في الإسلام، فهي بذلك في المبتدأ والمنتهى في النظر الإسلامي إلى الإنسان.

ولعل ما يشرح هذا أنّه في تاريخ الحفصيين تعطل إقراء العلم، حتى إن درس تفسير القرآن انقطع من جامع الزيتونة مدة سبعين سنة، وجاء عهد الدولة الحسينية والتي انحاز أهلها لمؤسسها الباي حسين بن علي الذي حكمها بين عامي (1705 – 1735)، وقد أعاد هذا الباي ربوع العلم بعد اندراسها، ورتب بجامع الزيتونة ثلاثين درساً وجعل للقائمين بتلك الدروس جرايات معلومة، فازدهرت العلوم، وبدأت العلوم تزدهر في حكم أحمد باي، ومحمد الصادق، حتى كان في عهد محمد الصادق خير الدين التونسي باشا (ت 1308 هـ / 1889) وقد كان بلور مشروعه الإصلاحي في كتابه ذائع الصيت: (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) ولعل خير الدين اهتم بالجانب السياسي لأن تونس في عهده كانت تشكو من الوطأة المباشرة للقصور الكبير في هذه الجوانب، بسبب النفوذ الاستعماري الأوروبي.

وكان مشروع خير الدين التونسي قائماً على التسليم بضرورة التكامل والتعاضد بين العلماء والحكام حتى تتحقق مقاصد الإصلاح الذي يتطلع إليه، وعنده أنه لا مجال للعلماء للتفصي من هذه الخلطة؛ لأن إدارة أحكام الشريعة كما تتوقف على العلم بالنصوص فإنها تتوقف على معرفة الأحوال التي تعتبر في تنزيل تلك النصوص، ومن ثمّ فإنّ (العلماء الهداة جديرون بالتبصر في سياسة أوطانهم، واعتبار الخلل الواقع في أحوالها الداخلية والخارجية، وإعانة أرباب السياسة بترتيب تنظيمات منسوجة على منوال الشريعة، معتبرين فيها من المصالح أحقَّها، ومن المضار اللازمة أخفّها، ومن نكص عن ذلك من العلماء عازلاً نفسه عن أرباب السياسة فقد سدّ عن نفسه أبواب معرفة الأحوال المشار إليها، وفتح أبواب الجور للولاة، لأنّهم إذا استعانوا به فامتنع صاروا يتصرفون بلا قيد) على حد تعبير خير الدين التونسي.

لهذا حاول خير الدين التونسي أن يقوم بمشروع إصلاحي في مجال التعليم يتمثل في:
1. إنشاء المدرسة الصادقية، قام فيها بتوسيع التعليم العربي الديني الإسلامي، بتعليم اللغات التركية والفرنسية والإيطالية، والرياضيات والاجتماعيات، ورجى تنسيق التعليم بالمدرسة الصادقية مع التعليم الزيتوني بحيث يصح أن ينتقل الطالب في رتبة معينة من الدراسة الثانوية لإكمال دراسة العلوم الدينية بجامع الزيتونة، أو يتمحض لإتمام التعليم العصري

2. إصلاح التعليم الزيتوني.

3. إنشاء المكتبة العبدلية.

4. تشجيع حركة الطباعة والنشر.

تلك هي أهم محاولات الإصلاح التي شهدها التعليم الإسلامي بجامع الزيتونة كما رصدها ابن عاشور في نهايات القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر، ساعياً إلى تبين مآلاتها واستخلاص عبرتها، ولقد كان لمحاولة خير الدين أثر مهم إذ تحقق فيها الكثير مما جاهد في سبيله دعاة الإصلاح طيلة أربعين عاماً.

• العلوم الإسلامية:
أوجه قصورها وأسباب تأخرها ومداخل إصلاحها:

مع اهتمام الشيخ ابن عاشور بالمحاولات الإصلاحية للتعليم الإسلامي ونجاعتها؛ لكنه لم يكن مطمئناً لها لأنّه غلب عليها الاهتمام بالجوانب الشكلية والخارجية، وفاتها أمر جوهري هو أن يستوفي النظر والقول فيه، وهو جانب الأوضاع الداخلية والشروط الذاتية لذلك التعليم.

وقد ذكر ابن عاشور أن القصور عن الوفاء بحاجات المسلمين في العصر الحديث في ظل أوضاع تغير فيها نظام الحياة في أنحاء العالم تغيراً استدعى تبدل الأفكار والأغراض والقيم العقلية مما نتج عنه تغير أساليب التعليم، ومقادير العلوم، وقيمة كفاءة المتعلمين لحاجات زمانهم.
وقد تبرّم الطاهر بن عاشور من طريقة بعضهم حيث إنّك لتنظر للرجل ابن القرن الرابع عشر فتحسه في معارفه وعلمه وتفكيره من أهل القرن التاسع أو العاشر، مما هو معلول لوقوف تقدم التآليف عند الحد الذي تركه الواقفون، فرزئ الناس فائدة الانتفاع بأخلاقهم وعوائدهم ومكتشفاتهم، وسُلبوا شرف النفس باعتيادهم التقليد والاستكانة لكلام الغير، واعتقادهم أن ما أتى به الأقدمون هو قصارة ما تصل إليه قُدَرُ البشر، فهم إذن عالة عليهم في العلم، والعبارة، والصورة، والاختيار أيضاً).

ذلك – عند ابن عاشور - هو الحال العام للمسلمين في علومهم وأوضاعهم الفكرية والثقافية، مقارناً إلى ما تطورت إليه أحوال غيرهم من الأمم.

أما أسباب الفساد الذي أصاب التعليم الإسلامي فهو يُلَخّصه في عوامل ثلاثة:
1. فساد المعلم.
2. فساد التأليف.
3. فساد النظام العام.

ويرى أنّ أجلى مظاهر الخلل في هذه الجوانب الثلاثة: " جهل المعلم أو المؤلف أو واضع نظام التعليم بمراتب الأفكار ومقدار قبولها، وبمراتب العلوم بالنسبة إلى قابلية الأفكار.

وقد ذكر ابن عاشور أنّ إصلاح التعليم على أهميته؛ لكن الأولى منه إصلاح العلوم؛ فلو أنّ الناس أحسنوا التآليف ونظروا في عوائق التحصيل فاستدركوا ناقصاً وأصلحوا مختلاً لما كان التلميذ يقرأ النحو طول زمانه وهو عاجز عن التكلم بكلام معرب، ولا كان يقرأ الأصول وهو يوم يختم المحلى لا يُحسن اختيار رأي بله استنباط حكم.

وقد اهتم ابن عاشور بمسألة تدوين العلوم والتأليف فيها لأنّ ذلك في رأيه من مبادئ نهضة الفكر البشري لا يجحده الإنسان إلاّ إذا لم يشعر أولاً بالحاجة إلى العلم وبسعته وبأنّه يتكامل بتلاحق الأفكار، وبأنّ الأفكار لا تستوي في منشآتها.

وقد ساق ابن عاشور خمسة عشرة سبباً ذات صبغة نفسية واجتماعية وثقافية يرى أنّها قعدت بالعلوم الإسلامية وأصابتها بالجمود والانكفاء.

ومن أهمها ما ذكره ابن عاشور أنّ العلوم في تاريخ المسلمين عَرَضَ لها توقف فجئي مع نهاية العصر العباسي بما قام من الفتن التي استأصلت الدولة العباسية وأضرمت ناراً في العالم كله، فأودت زهر العلوم في العالم الإسلامي، ووقف كل علم عند الحد الذي تركه المتقدمون".

إضافة لأسباب نفسية وفكرية عائدة للبيئة العلمية ذاتها المتمثلة في الإعجاب بآراء المتقدمين كيف كانت، وتنزيهها عن الخطأ، مع انعدام مَلَكة النقد وسيادة عقلية التقليد.

ويرى ابن عاشور أنّ الطالب عليه أن يقرأ تلك الكتب لتخدم فكره لا لتستعبد فكره، ولو اقتصر الطالب على التقليد لن يؤهل إلا للحصول على بعض ما أسسوه وحفظ ما استنبطوه.

وفي المقابل فإنّ ابن عاشور يرى الاهتمام بتراث المتقدمين وهو يدعو إلى موقف وسط قوامه أن نعمد إلى ما أشاده الأقدمون فنهذبه ونزيده، لا أن نعتكف فيه أو أن نبيده، لأن العلماء السابقين إنما غرسوا لننمي، وأسسوا لنشيد، وابتدؤوا لنزيد.
لا أن يكون المرء قائماً على طريقة علماء عهود التقليد الذين مجّدوا أساتذتهم فعدُّوا كلامهم نهاية العلم؛ ولعلّ من أسباب ذلك كما يرى ابن عاشور انصباغ سائر المسلمين بالطرائق الصوفية بحيث قلّ أن تجد فيها مسلماً غير منتسب إليها، وليس خلاف الشيخ مع جانب الزهد وحسن العبادة والسلوك الموجود ضمن التصوف المحمود؛ بل المعارضة لما ترتب عليه من تعوُّد النفس لقبول ما لا يُفهم والاقتناع به ولو كان ذلك رموزاً ومغلقات؛ فضلاً عن كون بعض زعماء التصوف حقّروا من العلوم العقلية كعلم أصول الفقه والمقاصد والبلاغة والتاريخ والعمران، وقد أثّر هذا كثيراً على تراجع العلوم.

وقد تحدث عن دور الفلسفة في البحث عن الدقائق الفكرية وإنارة العقل وتدريبه على فتح أبواب الحقائق المصفودة، والحُكم الأعلى على عموم العلوم، ومع أنّ القرآن أتى بتعليم حكمة ميزان العقول وصحة الاستدلال في أفانين مجادلاته للمعاندين وفي دعوته إلى النظر؛ فكان الواجب امتثال منهج القرآن في ذلك في طريقة التفكير.

وقد تحدث الطاهر بن عاشور عن دور الأوضاع الخلقية التي تنصبغ ببيئة تغيب فيها الدراسات التجديدية والعقلية حتى تؤثر في عقل المتعلمين والعلماء ويحصل سوء التفاهم بين العلماء في خلافياتهم وسرعتهم إلى نبز المخالفين وإشاعة التشنيع والسباب حتى تصبع فيئة الغالط إلى الحق أشدّ عليه من وقع الحسام لأجل الحميّة التي تشب فيه من اعتراض المعترضين.

وقد نقل ابن عاشور بعض الأمثلة التي يتناقلها الأشاعرة عن المعتزلة مذاهب يُقرّرونها بوجه يشك سامعه هل لهؤلاء المعتزلة عقل؛ وليس هذا في الحقيقة من قولهم بل هو من قبيل التهويل على المخالف، وهذا يجعلنا ننتهي إلى كثرة تحريف المخالفين كلام مخالفيهم وذلك شيء يعسر الاستثناء فيه.

ولعلّ هذه من أهم الأسباب التي أدّت في تقدير ابن عاشور إلى جمود العلوم الإسلامية، ولهذا يحتاج الأمر عنده إلى الإلمام بأسباب تأخر كل علم في ذاته من العلوم الإسلامية المتداولة؛ ليكون هذا البحث نبراساً تضيء به مسالك ما ينتحيه الأساتذة وما يهجرونه مما يمر بهم في أوقات المطالعة والتحرير؛ وليكون ذلك ممهداً لتأليف كتب قيمة في العلوم.

وقد ذكر المحقق الدكتور محمد الطاهر الميساوي عن ابن عاشور في استعراضه لبعض العلوم ما تحتاجه من تجديد وما حصل فيها من تدهور.

- أولا: التفسير:

يرى ابن عاشور أنّ عد التفسير علماً تسامح، ولا يقبل بعده كذلك إلاّ كما لو كان شرحُ الشعر علماً؛ ولتأييد هذا الرأي والاحتجاج له يقدم تحديداً لمعاني العلم ينهض في جزء مهم منه على التعريف الأرسطي الشائع للعلم الذي تبناه وبنى عليه كثير من النظار الإسلاميين من متكلمين وفلاسفة وأصوليين.

ونظراً لكون علم التفسير منبع العلوم فإنّ ابن عاشور ينظر فيه على هذا الاعتبار خاصة وأنّ لأسباب تأخره أثراً قوياً في تأخر كثير من العلوم الإسلامية، خصوصاً الفقه والنحو واللغة.

وابن عاشور يأخذ على علماء التفسير أنّهم انصرفوا عن الاشتغال بانتزاع كليات التشريع إلا في مواضع قليلة.

ويرى أنّ ولعهم بالتوقيف والنقل اتقاء الغلط الذي عظّموا أمره في القرآن، وقد نتج عن ذلك أن أصبح الناس يغتفرون في التفسير النقل ولو كان ضعيفاً أو كاذباً ويتقون الرأي ولو كان صواباً حقيقياً؛ لأنّهم توهّموا أنّ ما خالف النقل عن السابقين إخراج للقرآن عمّا أراد الله به.

ويرى ابن عاشور أن من توابع التوقيف في التفسير ولع المفسرين بما ادعوه من أسباب النزول التي أصلها أنّ آيات نزلت على مناسبات فتوسّعوا فيها توسعاً ضيّق معاني القرآن العليا، مع أنّ وزان الآية العامة النازلة على سبب خاص وزان تذييلات القرآن المناسبة لما سبقها من الأحكام.

كما حمل ابن عاشور على من حشى كتب التفسير بالروايات الضعيفة ولم ينبّهوا على مراتبها قوة أو ضعفاً؛ حتى أوهموا كثيراً من الناس أنّ القرآن لا تنزل آياته إلا لأجل حوادث تدعو إليها، مع أنّ القرآن أتى لما فيه صلاح الأمة وصلاح الأحول الفردية والجماعية والعمرانية.

كما نبّه على الضعف اللغوي وأنّ التفسير قد عرض له الضعف وأصابه التأخر نتيجة الضعف في اللغة والبلاغة وقلّة المبرزين فيهما من المفسرين.

ولهذا فهو يؤكد على أن تفسّر التراكيب القرآنية جرياً على معاني الكلمات القرآنية بحسب استعمال اللغة العربية، ثم أخذ المعاني من دلالة الألفاظ والتراكيب وخواص البلاغة، ثم استخلاص المعاني المدلولة منها بدلالات المطابقة والتضمن والالتزام.

وابن عاشور اهتم بعلاقة العلوم المختلفة بالقرآن الكريم وتفسيره، وأن التوافق بين معاني القرآن وحقائق العلوم على الرغم من أنه يختلف باختلاف المقامات إلا أنّه ليس مطلقاً على عواهنه بدون ضوابط، وإنما تحكمه أصول ومعايير وشرطه أن لا يخرج عما يصلح له اللفظ عربية، ولا يبعد عن الظاهر إلا بدليل، ولا يكون تكلفاً بيّناً ولا خروجاً عن المعنى الأصلي، وفي ضوء ذلك وبعد مناقشة ونقضٍ لما ذهب إليه الشاطبي في المقدمة الخامسة من الموافقات حيث أنكر أن تكون للقرآن صلة بعلوم الأوائل والأواخر على السواء بناء على ما قرره من أميّة الشريعة وجريانها على معتاد العرب في الفهم والإفهام يرتب ابن عاشور علاقة العلوم المختلفة بالقرآن على أربع مراتب وهي:
1. علوم تضمنها القرآن كأخبار الأنبياء والأمم (التاريخ)، وتهذيب الأخلاق، والفقه والتشريع، والاعتقاد، والأصول العربية والبلاغية.

2. علوم تزيد المفسر علماً كالحكمة والهيئة والأصول العربية والبلاغية.

3. علوم أشار إليها أو جاءت مؤيدة له؛ كعلم طبقات الأرض والطب والمنطق.

4. علوم لا علاقة لها به لبطلانها، كالزجر والعيافة والميثولوجيا، وإما لأنها لا تعين على خدمته كعلم العروض والقوافي.

- ثانياً: علم الكلام:

إذا كان البحث في الوجود والموجود مسألة طبيعية تجيش بها النفس الشاعرة؛ فإنّ علم الكلام في إثباته عقائد الإسلام والاحتجاج لها يُمكن عدّه نظير قسم الإلهيات في الفلسفة.

وهكذا يُمهد ابن عاشور لتسجيل مأخذه على هذا العلم، وقد خلص إلى أنّ أهم أسباب تأخره: الخلاف في الاصطلاحات والصفات وتعديدها وكثرة الخلاف اللفظي، ونشأ عن ذلك عدم تحرير مواضع النزاع وتحديد المسائل تحديداً علمياً منضبطاً يرفع كثيراً من سوء التفاهم بين المختلفين والمتناظرين.

- ثالثا: علوم اللغة (النحو والصرف):

يرى ابن عاشور أن اللغة التي أُلْهِمَها البشر منذ النشأة الأولى هي مبدأ حركة الفكر الإنساني الذي بمقتضاه جُعِلَ الإنسان بطبعه متعلماً ومُعلّماً.

ولكنها أصيبت بالجمود حين ألمّت الأمراض الاجتماعية بالمسلمين في القرن الخامس للهجرة، حتى إن المرء ليقرأ مسائل النحو كاملة ثمّ لا يكون من بعد قادراً على تحرير رسالة أو قول كلام معرب؛ فانطبق عليه قول من قال: (النحو صنعتنا واللحن عادتنا).

ويرى أنّ من الأسباب التي أخّرت علم النحو والصرف كثرة التطويل في إيراد خلاف البصريين والكوفيين مع أنّ أغلبه – برأيه – يرجع إلى اللفظ.

- رابعاً: المنطق:

المنطق علم يعصم الذهن من الوقوع في الخطأ؛ وهو ليس مختصاً بالعبقرية اليونانية؛ وإن كان أرسطو هو الذي جمع أصوله إلا أنّه يمكن القول أنّ مثل هذه النظرة للمنطق هي التي حدت بالفيلسوف الإنجليزي جون لوك في سياق نقده للفكر الفلسفي المدرسي في العصور الأوروبية الوسطى إلى أن يقول قولته الساخرة: (إنّ الله لم يكن من البخل بحيث يخلق الإنسان ويجعل له رجلين، ثم يترك لأرسطو أن يجعله كائناً عاقلاً يفكر تفكيراً منطقياً).

وقد رأى ابن عاشور أنّ من أسباب الإخلال التي أصابت المنطق سوء الترجمة والغفلة عن التطبيق على أسلوب العربية التي نُقل لأجلها؛ لأنّه علم لساني لا عقلي؛ فضلاً عن كون بعض العلماء قد قالوا بتحريمه.

- خامساً: الفقه وأصوله:

حاول ابن عاشور أن يستقصي حركات التفريع والاستنباط الفقهي كما انتهت إليه في كتب الفقه فوجد أنّه يُمكن تقسيمها قسمين:
أ‌. قسم تذكر فيه الفروع وأنواع الحوادث مُذَيّلة بأحكامها مثل المدونة المروية عن الإمام مالك ومثل الجامع لمحمد بن الحسن الشيباني.

ب‌. قسم تذكر فيه الكليات الفقهية التي يسميها المتأخرون الأصول القريبة، ويُفرّعون عليها المسائل الجزئية، مثل: قواعد القرافي، والأشباه والنظائر لابن نجيم..


لكن اقتصار الأغلبية من الفقهاء على ذلك وميلهم للتقديرات وتكرير الفروع كان في رأي ابن عاشور أقدم فساد أوجب تأخر الفقه وأطمع فيه القاصرين حيث رأوه غير محتاج إلى نظر أو خدمة علوم أخرى، بل هو صور لها أحكام تؤخذ مسلّمة.


وإذ كان للفقه علاقة بالأصول والعكس كذلك؛ فإنّ أيّ تأثر أو تأخر يصيب أحدهما سيصيب الآخر، ومن ذلك إبطال النظر في الترجيح والتعليل، وهذا يُفضي للتوقف في أحكام محدثات كثيرة، ويلزم منه إهمال النظر في مقاصد الشريعة، ويرى أنّ هذا كان سبباً للجمود، وأن أشأم ما نشأ عنه مسألة الحيل التي ولع بها الفقهاء بين مُكثر ومُقل.


كما ذكر أنّ من أنواع الضعف الذي قعد بالفقه؛ الضعف في علوم الاجتماع وحاجة الأمة إليه؛ مما نتج عنه مثلاً إهمال أحكام صور من البيوع إذ نزّل العلماء على بيوع الناس اليوم أحكام بيوع الآجال التي كانت في القرون الأولى من الهجرة، ولم يعتنوا بتخريج أحوال البيوع الحاضرة.
كما ذكر أنّ الفقهاء أوغلوا النظر في فقه الشعائر، وتضخّم هذا على حساب النوازل والمحدثات والوقائع الجديدة.

• دواعٍ ومقاصد في التنظير للمقاصد:
لم يرَ ابن عاشور البحث في علم المقاصد من باب الترف العقلي وإنما هو ذو غايات عملية تهم المسلمين في حياتهم الفكرية والاجتماعية الراهنة، والقصد منه إغاثتهم ببلالة تشريع مصالحهم الطارئة متى نزلت الحوادث واشتبكت النوازل، وبفصل من القول إذا شجرت حجج المذاهب وتبارت في مناظراتهم تلكم المقانب.


ولأن البحث في المقاصد من الأمور التي أهملت في تاريخ العلوم الإسلامية كما رأينا؛ فإنّ ابن عاشور يدرك منذ البداية أن المقدم عليه لن يسير في طريق مطروقة ممهدة؛ ذلك أنّه حتى القواعد التي أصّلها بعض الأئمة مما يتصل بهذا المبحث جاءت متناثرة قد غمرتها الجزئيات التي استدل بها عليها فأبعدها ذلك عن ذاكرة من قد ينتفع بها عند الحاجة إليها.


وقد ذكر ابن عاشور أنّ الغرض من البحث في المقاصد؛ تجاوز ما يحدث بين المختلفين في مسائل الشريعة من عسر الاحتجاج إذ كانوا لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلة ضرورية أو قريبة منها يُذعن إليها المُكابر ويهتدي بها المُشبّه عليه؛ كما ينتهي أهل العلم العقلية في حجاجهم المنطقي والفلسفي إلى الأدلة الضروريات والمشاهدات والأصول الموضوعة، فينقطع بين الجميع الحجاج، ويرتفع من أهل الجدل ما هم فيه من لجاج. ورأيت علماء الشريعة بذلك أولى وللآخرة خير من الأولى.


ولكن قد يعترض معترض بقوله أنّ علم أصول الفقه قد تكفّل بذلك، وهو العلم الذي حوى ضوابط الاجتهاد وقواعد الاستنباط، وقنّن مسالك الرأي والنظر في نصوص الشريعة.


غير أنّ هذا لم يغب عن ابن عاشور؛ فقد أثاره هو نفسه وردّ عليه بأنّه لا غناء في علم الأصول؛ إذ إنّ معظم مسائله مختل فيها بين النُظّار، مستمر بينهم الخلاف في الفروع تبعاً للخلاف في تلك الأصول، ولهذا فهو يرى أنّ حقيقة الأمر أنّ الخلاف الناشب في أصول الفقه سببه أنّ قواعد الأصول نفسها قد انتزعت من الفروع الفقهية انتزاعاً؛ لأنّ علم الأصول قد جرى تدوينه في مرحلة متأخرة عن تدوين الفقه، ومن ثمّ لا مع في نظر ابن عاشور في بلوغ القطع واليقين بتطلبه بواسطة قواعد علم الأصول، ولذلك جاءت دعوته صريحة وقوية إلى مراجعة مسائل أصول الفقه وإخضاعها لميزان النقد والنظر وتنقيتها؛ لتؤدي بذلك إلى تأسيس علم مقاصد الشريعة؛ وغايته من ذلك الوصول إلى تحديد أصول جامعة لكليات الإسلام تهدي المجتهدين وتعصمهم في إجراء الأحكام وتكون لهم بمنزلة إبرة المغناطيس لربّان السفينة.


ومع تسليم ابن عاشور للجهود التي بذلها القرافي والعز بن عبد السلام ولكنهما وقفا دون بلوغ المقصود والمطلوب من رأيه، وقد اعتبر ابن عاشور أنّ الشاطبي هو الرجل الفذ الذي أفرد هذا الفن بالتدوين؛ لكنّه صرّح أنّ أبا إسحاق قد تطوّح في مسائله إلى تطويلات وخلط، وغفل عن مهمّات من المقاصد، بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود، على الرغم من كونه أفاد جدّ الإفادة كما يقول ابن عاشور.


فمنهج ابن عاشور أنّه يعمد إلى تراث السابقين وخصوصاً الشطابي فيأخذ مهماته ويبني عليها؛ لا أن يقوم بمجرد نقله أو اختصاره كما صرّح بذلك في مقدمة الكتاب.


وهو يروم من بحثه إلى أن تكون غاية كبرى مقدمة لغيرها؛ بتحديد أصول جامعة لكليات الإسلام. وليست الكليات التي يقصدها هي ما جرى عليه الاصطلاح عند الفقهاء والأصوليين في حديثهم عن الكليات أو الضروريات الخمس؛ فهذه وإن كانت عنده مفاهيم أساسية في بناء تلك الكليات؛ إلاّ أنّها ليست كافية بذاتها لتهدي عملية الاجتهاد وتضيء مسالكها وتقيمها على أساس مكين أو تنتهي بها إلى القطع واليقين، ولهذا فالبحث في مقاصد الشريعة بغرض تحديد أصول جامعة لكليات الإسلام يريده ابن عاشور أن يكون باباً لحصول الوفاق في مدارك المجتهدين أو التوفيق بين المختفين من المقلدين وسبيلاً لانتظام أمر الأمّة وجلب الصالح إليها ودفع الضر والفساد عنها.


وقد نبّه ابن عاشور إلى قضية وهي أن علماء الشريعة وفقهاءها وإن استشعروا أهمية علم المقاصد وعملوا له في خصوص صلاح الأفراد؛ فإنّهم لم يتطرقوا إلى بيانه وإثباته في صلاح المجموع العام، خاصّة وأنّ هناك أبواباً مهمّة تنبني عليها أحكام كثيرة ذات تعلق قوي بمصالح الأمة في مجموعها وما يمكن أن يلحقها من مشاق قد أهمل النظر والبحث فيها.


• ما بين أصول الفقه ومقاصد الشريعة: إشكالات ومداخلات:

لعل ما أراده الطاهر بن عاشور محاولة إنشاء علم أصول الأصول في الفقه، وهو ما ذهب إليه سعيد الأفغاني إذ اعتبر كتاب ابن عاشور في المقاصد خطوة سديدة نحو ذلك.


ولكن يُمكن السؤال بصيغة أخرى وهي: هل السعي لتأسيس علم المقاصد سعي لتجاوز علم الأصول؟


يرى الأستاذ عبد المجيد تركي أنّه يمكن القول أن الشاطبي اهتدى في بحثه في المقاصد إلى صياغة جديدة محكمة الفصول واضحة البيان لعلم أصول الفقه التقليدي.


لكن عبد المجيد الصغير يرى حتمية تأسيس قول أو اجتهاد جديد في الشريعة يضمن القدرة على التكيف، ونخل الشريعة من مطلعها إلى مقطعها، حتى تساير ظروف الانحدار الشامل والسريع، والغاية من هذا القول نخل نظريات تقليدية في ضوء مقاصد الشريعة كما يقول الصغير.


لكن هنالك فئة ترى أن الدعوة إلى تأسيس علم مقاصد الشريعة تقتضي بالضرورة التخلي عن أصول الفقه بمناهجه وقواعده ومسائله بدعوى أنّه فقد وظيفته التاريخية وجدواه العلمية.


لكن علينا العودة إلى ما قُرِّرَ سابقاً من أنّ النظر في مقاصد الشريعة عموماً وعند ابن عاشور خصوصاً من غاياته تجاوزُ المنحى التجزيئي في تفهم أحكام الشريعة بمراتبها المختلفة، ومن ثمّ معالجة المشكلات التي تواجه المسلمين وفق رؤية كلية تنزل الحلول الشرعية على الوقائع والنوازل من حيث هي حالات جماعية تهم الأمة في مجموعها أو فئات واسعة منها، لا بما هي حالات وقضايا خاصة تهم أفراداً أفذاذاً منعزلاً بعضهم عن بعض.


وقد أفاد من منظور ابن عاشور عدد من المفكرين والأساتذة ومنهم: محمد باقر الصدر، محمد مهدي شمس الدين، وحسن الترابي، وعبدالحميد أبو سليمان، ولؤي صافي.


لهذا يقول المحقق ومُقدّم الكتاب محمد الطاهر الميساوي: ومرّة أخرى نلحظ أنّ الإشكالية ذاتها التي سبق لابن عاشور أن طرحها وسعى إلى علاجها، وإن اختلفت العبارة أو تباين سياق الطرح وعنوانه، ألا وهي إشكالية القطع والظن، والكلي والجزئي في فهم نصوص الشريعة واستخلاص دلالاتها وأحكامها، وصلة ذلك كله بقضايا المجتمع من حيث هي أمور كليّة تهم الأمة وجماعاتها أو فئاتها المختلفة لا مجرد نوازل أو قضايا جزئية تقتصر على أفراد منعزلين.


ففي رأي ابن عاشور أنّ المصلحة التي تتحقق بواسطة القياس الفقهي إلحاقاً لجزئي حادث غير معلوم حكمه بجزئي ثابت حكمه في الشريعة (مصلحة جزئية ظنية غالباً لقلة صور العلة المنصوصة)، وإذا كان مثل هذا القياس قد عُدّ حجّة عند الأصوليين والفقهاء؛ فلأن نقول بحجية قياس مصلحة كلية حادثة في الأمة على كلية ثابت اعتبارها في الشريعة باستقراء أدلة الشريعة الذي هو قطعي أو ظني قريب من القطعي، أولى بنا وأجدر بالقياس وأدخل في الاحتجاج الشرعي.


على أنّ هذا لا يعني عند ابن عاشور الذي دعا بقوة ووضوح إلى تأسيس علم مقاصد الشريعة اطّراح علم أصول الفقه والتخلي عنه جملة وتفصيلاً؛ إذ سيستمر يؤدي وظيفة مهمة في النظر الاجتهادي الإسلامي حيث تستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية.


• مقاصد الشريعة وقضايا التنظير الاجتماعي:

البحث في مقاصد الشريعة عند ابن عاشور مرتبط ارتباطاً قوياً ومباشراً بالبحث في نظام الاجتماع الإسلامي، مما يجعل من الضروري البحث عن قواعد أوسع.


إنها أربعة مفاهيم أساسية يرى ابن عاشور أنها تكون المحور الذي تدور عليه عقائد الإسلام وتعالميه وتشريعاته، وهي: الفطرة والسماحة والحرية (وترتبط بها المساواة) والحق (بمعناه الاجتماعي القانوني، ويرتبط به العدل).


فأم الفطرة فهي عنده الحالة التي خلق الله عليها عقل النوع الإنساني سالماً من الاختلاط بالرعونات والعادات الفاسدة، وهي حالة صالحة لصدور الفضائل عنها.


ومعنى وصف الإسلام بأنه فطرة الله أنّ الأصول التي جاء بها الإسلام من الفطرة، ثم تتبعها أصول وفروع هي من الفضائل الذائعة المقبولة، فجاء الإسلام وحرض عليها إذ هي من العادات الصالحة المتأصلة في البشر، والناشئة من مقاصد من الخير سالمة من الضرر، فهي راجعة إلى أصول الفطرة، لهذا يؤكد ابن عاشور أنّ جميع أصول الإسلام وقواعده تنفجر من ينبوع معنى الفطرة.


وربما أمكننا التعبير عن مفهوم الفطرة بمصطلح الطبيعة الإنسانية الشائع في الفكر الفلسفي والدراسات الاجتماعية الوضعية؛ إلاّ أنّ هذا المصطلح كما جرى تحديد معناه وتوظيفه في تلك الدراسات يميل في الغالب إلى استبعاد الأبعاد الغيبية والروحية للتكوين الإنساني.


ثم ينبثق عن ينبوع الفطرة معنى السماحة فهي عنده أكمل وصف لاطمئنان النفس وأعون على قبول الهدى والإرشاد، وهو يعتبر السماحة أصلاً قطعياً يُستدل عليه من الظواهر الكثيرة المبثوثة في نصوص الشريعة إذ إنّ كثرة الظواهر تفيد القطع، وضد السماحة الشدة والتشدد، وفي التعبير عن السماحة دلالة على السهولة واليسر، وكذلك مفهوم الرخصة باعتباره مظهر من مظاهر السماحة.


على أنّ ابن عاشور لا يرسل الكلام على عواهنه لينفتح الباب لمن شاء أن يقدر ما شاء وكيف شاء، رخصة كان أم سواها، مما هو متعلق الأحكام الشرعية؛ فالأمر عنده يتطلب علماء أهل نظر سديد في فقه الشريعة، وتمكن من معرفة مقاصدها، وخبرة بمواضع الحاجة في الأمة، ومقدرة على إمدادها بالمعالجة الشرعية لاستبقاء عظمتها، واسترفاء خروقها، ووضع الهناء بموضع النقب من أديمها، وحتى لا يكون هذا خارجاً من اجتهاد فردي ولكي يكون له حدوده فقد دعا منذ الأربعينيات إلى جمع مجمع علمي من أكابر علماء الإسلام ليبسطوا بينهم حاجات الأمة ويصدروا فيها عن وفاق فيما يتعين عمل الأمة عليه.


ويكافئ مفهومي الفطرة والسماحة أهمية مفهوم الحرية ويتكامل معها في النظر المقاصدي لابن عاشور، ففضلاً عن كون الحرية مقصداً من مقاصد الشريعة فهي كذلك أصل من أصول المجتمع الإسلامي الذي حاول أن يرسم معالمه في أصول النظام الاجتماعي في الإسلامي.


وقد بيّن الطاهر بن عاشور أنّ الحريّة لها أصلان لغويان:
الأول: الحرية ضد العبودية وذلك بأن يكون تصف الشخص العاقل في شؤونه بالأصالة تصرفاً غير متوقف على رضا أحد آخر.


وأما المعنى الثاني فهو ناشئ عن الأول بطريقة المجاز في الاستعمال، وهو تمكن الشخص من التصرف في نفسه وشؤونه كما يشاء دون معارض.


والحريّة كما يقرر ابن عاشور أنّها خاطر غريزي في النفوس البشرية، فبها نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة الابتكار والتدقيق.


ويبيّن الشيخ أنّ مفهوم الحريّة من خلال سيرورته وصيرورته من أفق التجربة التاريخية الإنسانية فيؤديه للتأمُّل في مسيرتها إلى أنّ أفراد البشر وجماعاته قد تعرضوا من جراء التصرف بالحرية دون اتزان إلى كوارث لحقت الأشخاص وتشاجر حدث بين الجماعات.


ولم يكن ابن عاشور غافلاً عن سيرة مفهوم الحرية في الثقافة الغربية الحديثة وما اتخذه من معانٍ وأبعاد خصوصاً منذ اندلاع الثورة الفرنسية التي قوّضت النظام الملكي الإقطاعي وأقامت مكانه نظاماً جمهورياً.


لهذا فهو يتوقف عند الحريات الأربع التي قام حولها نوع من الإجماع في الفكر السياسي والاجتماعي الحديث وهي:
1. حرية الاعتقاد.
2. حرية التفكير.
3. حرية القول.
4. حرية الفعل.


فيقرر أنّها محدودة في نظام الاجتماع الإسلامي بما حددت به شريعة الإسلام أعمال الأمّة الإسلامية في تصرفاتهم الفردية والجماعية في داخل بلاد الإسلام ومع الأمم المجاورة والمتعاملة، من جلب مصلحة المسلمين ودرء المفسدة عنهم، وترجيح درء المفسدة على جلب المصلحة إن تعذر الجمع بين الأمرين، ومن سلوك أمثل الطرق السياسية لتأمين الأمة من غوائل العدو ومكر من يتربص بهم الدوائر.


وقد وقف الشيخ الطاهر بن عاشور في موضوع حرية الاعتقاد عند مسألة الردة التي تُمثّل واحداً من أهمّ موارد الاعتراض على الفكر الإسلامي في العصر الحديث فيرى فيها الرأي السائد بين جمهور الفقهاء والقائل بعقوبة القتل فيها؛ إلاّ أنّه يُقدّم تفسيراً لشرعية هذه العقوبة يُمكن اعتباره من أجمع التفسيرات التي قدمت لها، بل يُمكن أن نزعم أن التفسير السياسي والاجتماعي لعقوبة الردة الذي قال به عدد كبير من المفكرين الإسلاميين المعاصرين في تنظيرهم لمفهوم الدولة الإسلامية ونظامها السياسي لم يخرج عمّا قرّره ابن عاشور.


وقد قدّم ابن عاشور تفسيرات لعقوبة حد الردة وأنّ الشخص حين دخل الإسلام قناعة قد قطع على نفسه عهداً يحق الوفاء به؛ فإذا ارتد عن الإسلام فإنّه يكون حينئذٍ قد نقض عهده وذلك سلوك يُصيّره مثلاً سيئاً يجب على أمّته أن تطهر نفسها من وجوده لئلا ينفرط عقد الجامعة بالانسلال منه، ولئلا يتهاون الداخل في الإسلام بأن يدخله تجربة فإن وافق أهواء أعماله استمر فيه وإلاّ انخزل عنه، ولئلا يتوهم ضعاف العقل بانخزاله أنّه جرّب الدين فوجده غير مرضٍ ولئلا يكون الدخول في الدين من ذرائع التجسس على الأمّة.


وقد حاول محقق الكتاب د. محمد الطاهر الميساوي أن يذكر اعتبارات أخرى تُعزّز قول من قال أنّ حد الردة كان ظرفياً لأن الأمّة الإسلامية كانت في أطوارها الأولى في التكوين؛ مما جعل من الضروري سد الذرائع أمام كل ما من شأنه أن يُسبب خللاً في كيانها الثقافي وتماسكها الاجتماعي؛ أمّا وقد استوى عودها، وأصبح وجودها على ما به من ضعف ممتداً على نطاق العالم أجمع، فقد يبدو أنّ العقوبة على الارتداد يُمكن أن لا تؤدي إلى تحقيق المقصد منها الذي صرّح به ابن عاشور في كلامه.


وبالنسبة لحرية الفكر عند ابن عاشور فليست ذات اتجاه واحد بمعنى أن يُعرب المرء عن رأيه دون حاجز أو مانع أو خوف من أحد، وإنما يكتمل أمرها ويستقيم حالها بأن يكون الآخرون على استعداد لتلقي الرأي المخالف بالاحترام، ذلك أنّه من الأسباب في تقدم الأمة بعلومها وقبولها لمرتبة التنور وأهليتها للاختراع في معلوماتها أن تسب على احترام الآراء.


يقول الطاهر الميساوي: إن ابن عاشور يبدو مفرط الحساسية في كلامه عن الحرية، شديد الحرص على معانيها وتعميق الشعور بقيمتها في عقول المسلمين وضمائرهم، وكفى قوة ووضوحاً في موقفه إزاءها أن جعلها في المقدمة من مقاصد الشريعة التي عليها مدار نصوصها وأحكامها، مثلما نظر إليها بوصفها أصلاً من أصول نظام الاجتماع الإسلامي، فهي عنده في المبتدأ والمنتهى.


ولا ينفصل البحث في مسألة الحرية عند ابن عاشور عن الكلام على مفهوم الحق؛ لأنّ استعمال الحرية محوط بسياج من الحقوق، وتحديد الحرية مرجعه إلى مراعاة الحقوق التي تدحض الانطلاق في استعمال المرء حريته كما يشاء.


والحق والعدل في نظر ابن عاشور متصلان ومتلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، بل إنّ ماهيّة العدل عنده أنّه تمكين صاحب الحق بحقه بيده أو يد نائبه وتعيينه له قولاً أو فعلاً.


والعدل شأنه شأن الحرية هو الآخر مستقر حسنه في الفطرة الإنسانية، ذلك أن كل نفس تنشرح لمظاهر العدل ما كانت النفوس بمعزل عن هوى يغلب عليها في قضية خاصة، أو في مبدأ خاص تنتفع فيه بما يُخالف العدل بدافع إحدى القوتين الشاهية والغاضبة.


وقد نبّه ابن عاشور أنّ الباحث في نظام الاجتماع الإنساني وظواهره وحركته أحوج إلى قواعد أوسع من قواعد أهل أصول الفقه؛ ذلك أنّ هداية الوحي الخاصة بشؤون الحياة الإنسانية عامة والبصائر التي يقدمها عن الوجود الاجتماعي للإنسان بأبعاده المختلفة وظواهره المتعددة لا تقتصر على ما اعتاد علماء الفقه والأصول غالباً النظر فيه والتركيز عليه مما عُرف بآيات الأحكام وما لحقها من الأحاديث النبوية.


وكذلك ذكر الطاهر الميساوي أنّ القرآن يُقدّم في قصصه التاريخي عن الأنبياء وأقوامهم وفي وصفه لظواهر المجتمع بل وظواهر الطبيعة أيضاً مُعطيات ومعلومات غزيرة ذات صلة وثيقة بفهم الوجود الاجتماعي والتاريخي للإنسان يحتاج للتعامل معها والاستفادة منها إلى منهج علمي من التفسير والتأويل والتحليل والتركيب غير ما يوفره علم أصول الفقه للاجتهاد الفقهي التشريعي؛ فضلاً عن أنّ الآيات الكثيرة التي تتحدث عن الخلق وتقرر عقائد الإيمان من توحيد وبعث وجزاء وغيرها، وتلك التي تتحدث عن الأمانة التي حُمّلها الإنسان والاستخلاف الإلهي له، أو ما يُمكن أن نُعبّر عنه بالرؤية الإسلامية الكليّة للوجود والحياة.


إنّ العلاقة بين البحث في المقاصد والبحث في التاريخ والاجتماع البشري معتبرة وبينها صلة وطيدة، وقد ذكر الشاطبي أنّ كليّات الشريعة التي يحددها بالضروريات والحاجيات والتحسينيات ويقرر أنها وإن تفاوتت في المرتبة فقد استوت في أنها كليات معتبرة في كل ملة، أما ابن خلدون فهو يؤكد بعد أن يقرر المقاصد الشرعية في الأحكام أنّها كلها مبنية على المحافظة على العمران، أن الاجتماع البشري في أجيالهم المختلفة إنما هو للتعاون على تحصيل معاشهم بالابتداء بما هو ضروري منه وبسيط قبل الحاجي والكمالي.


لهذا كانت غاية الشاطبي الوصول لكليات مقتبسة من الشريعة تُضاهي الكليات المقتبسة من الوجود وتستوي معها في العموم والاطراد، والثبوت من غير زوال، والحكومة على ما سواها من قول أو فعل.


أما ابن خلدون فغايته وهو ينظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران تمييز ما يلحقه من الأحوال لذاته، وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضاً لا يعتد به، وما لا يُمكن أن يعرض له؛ ليكون ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه؛ ولا يمكن بلوغ ذلك كما يؤكد ابن خلدون إلا باعتبار المطابقة في صدق الوقاع وصحتها..


وهكذا فنحن أمام محاولة للبحث عن الأصول العامة والكليات الثابتة المطردة التي تكون معياراً وميزاناً لغيرها؛ فالشاطبي يريد أن يتجاوز بهذه الأصول والكليات حالة التشتت والجزئية في النظر إلى نصوص الشريعة وأحكامها التي آل إليها أمر الفقهاء غفلة منهم عن المنطق العام الذي ينتظمها والمقاصد الكلية المنوطة بها، أما ابن خلدون فيريد أن يضع بها حداً لذهول المؤرخين وغفلتهم عن أسباب العمران وعلله وسننه.


فكأنما الرجلان قد شعرا بالحاجة المُلِحّة إلى رؤية كلية شاملة للشريعة والاجتماع الإنساني.


• ابن عاشور وبحث المقاصد في العصر الحديث:

إن كان الشاطبي المعلم الأول في علم المقاصد على الصعيد المنهجي والتأسيس العلمي؛ فإنّ ابن عاشور هو مُعلّمها الثاني حيث وسّع دائرة البحث في المقاصد وأعطاه وجهة جديدة تتجاوز به حدود السعي لتأسيس مجرد أصول تشريعية عقلية كلية قطعية.


ولعلّ من كتب في علم المقاصد من بعده الأستاذ علال الفاسي لكن الفاسي لم يكن مقصده على المقاصد نفسها بل سلك مسلك الاستطراد في عدة قضايا وموضوعات ثانوية جرّه إليها – في تقدير الطاهر الميساوي – منزع المجادلة والمساجلة، وذلك واضح في كلامه عن فكرة القانون الطبيعي عند اليونان، وقانون الشعوب عند الرومان، والمعتزلة الجدد، وهذا ليس بعيداً عنه فقد كان مناضلاً وزعيماً سياسياً يُجادل أهل المذاهب الفكرية ويجادل أهل السياسة.


ومع أن علال الفاسي ذكر في مقدمته أن من كتب في المقاصد لم يتجاوزوا الحد الذي وقف عنده الشاطبي ولم يبلغوا ما إليه قصد، أو أن بعضهم خرج عن الموضوع إلى محاولة تعليل كل جزء أجزاء الفقه آخذاً للمقاصد بمعناها الحرفي.


ومع أن الفاسي لم يذكر في مراجعه سوى كتاب قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، وكتاب ولي الله الدهلوي إضافة لقواعد ابن فرحون وقواعد المقري وقواعد ميارة.


غير أن الطاهر الميساوي ذكر أن كتاب ابن عاشور الذي صدر عام 1366هـ / 1946م هو الكتاب الذي ظهر بعد الموافقات وخصص القسم الثالث منه لدراسة المقاصد الخاصة بأبواب المعاملات؛ فلعل من قصده الأستاذ علال الفاسي هو صاحب كتاب المقاصد ابن عاشور؛ مع ان الفاسي لم يذكر ابن عاشور مجرد ذكر في كتابه.


وقد خلص الميساوي أن ابن عاشور كان هو الحاضر الغائب عند الفاسي وهو يؤلف كتابه؛ فهو غائب حين جرى تجاهله، وحاضر نظراً لأن كثيراً من الأفكار التي دوّنها بشأن المقاصد قد ساعدت الفاسي على تأليفه، وذكر بعض النماذج في هذا التي استفادها الفاسي من ابن عاشور مع إغفاله لذكر الكتاب وصاحبه؛ كنموذج في سد الذرائع، وعلاقة الحِيَل بسد الذرائع، والمقصد العام من الشريعة، ومقامات الرسول صلى الله عليه وسلم في التشريع.


وذكر الطاهر الميساوي أن مراده هنا ليس أن نُزجي مدحاً لابن عاشور أو قدحاً للفاسي؛ وإنما ظاهرة عدم التواصل العلمي والتكامل التي أصابت الفكر الإسلامي؛ وهذا يُذكّرنا بما ذكره مالك بن نبي من غياب شبكة العلاقات الثقافية التي تسمح بالتفاعل والتواصل والتكامل بين علماء الأمة ومفكريها بدل أن يعيشوا وكأنما هم في جزر منعزل بعضها عن بعض.


لقد اهتم ابن عاشور في مقاصد الشريعة بموضوع السنة وأنها معظمها تشريعات جزئية لأنها في قضايا عينية؛ ولهذا فإن دراسة الأحوال الاجتماعية والسياسية والبيئة الثقافية التي تنزلت فيها والقضايا التي عالجتها تمثل مطلباً ضرورياً لتمييز ما اشتملت عليه كما يقول من موارد التشريع وإلحاق كل نص بنوعه.


واختتم الطاهر الميساوي مقدمته بوجود حضور قوي فاعل للهم المقاصدي في الفكر الإسلامي الحديث، وأن ما بدأه بهذه الرحلة مع ابن عاشور من هموم في إصلاح العلوم الإسلامية، وما أثاره من إشكالات وما طرحه من تساؤلات، يؤكد أن التحدي ما زال قائماً وأن المشروع ما زال مفتوحاً على المستقبل، يتحدى أهل الذكر وينتظر الإنجاز، سواء على مستوى إعادة بناء العلوم الإسلامية عموماً أو على مستوى تأسيس علم المقاصد كما تطلع ابن عاشور.
والله وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

خباب الحمد