اطبع هذه الصفحة


[ صناعة مستقبلنا الدعوي: تنظيراً وتأثيراً ]

 

خبَّاب بن مروان الحمد
@khabbabalhamad


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار  أمّا بعد:
فإنّ دراسةُ المستقبل والمناسبات الدعوية الملائمة له ليس ترفاً من القول؛ ولا رجماً بالغيب، ولا انتظاراً لنبوءة نبي سيبعثه الله لأجيال قادمة؛ بل هي رؤية استشرافية تخطيطية؛ تستدعي من الشخص الوقوف بتروٍ وتؤدة؛ لدراسة ماضي الأمة، والإفادة من تجاربها ومواطن الإخفاق فيها والإحسان؛ لتحسين الإنتاج الدعوي في الوقت الحاضر؛ وزراعة البذور والجذور لخير ثمرة ونتيجة لإدراك مآلات تتأمّلها الأمّة وتعيش بها خير حياة.
لقد ذكر الله سِيَرَ أمم سابقة سادت ثم بادت؛ وطلب منا التأمل فيها، كي لا نهلك كما هلكوا، فالسعيد من وُعظ بغيره؛ فنعتبر بخبرهم ولا نكون لغيرنا موعظة؛ وحثّ ربنا – تبارك وتعالى - على السير في الأرض للتفكر في حقيقتها لكي نتعرف على صنائع الله في العباد والبلاد؛ وذكّرنا في مواطن عديدة بسُننه الإلهية والكونية إذ الخبرة بها سبيل للوعي بطريقة صناعة ما ينفع مستقبلنا الدعوي.
إنّ الاستباق بالتفكير للعمل؛ يُولّد العمل؛ وإنّ حسن النظر والتنظير؛ يعقبه صلاحية الممارسة والتطبيق، وإنّ تقدير الصالح للمستقبل يعطي تنويراً استبصارياً فيكاد أن يكون في حكم الحاضر؛ فمن تفرّس لمستقبله نالته عزمة من ثقة تجعله يحسن التعامل معها أفضل من أن يحلّ به دونما سبق تفكير.

إنّ سؤالات المستقبل تفيد حراكنا الدعوي مثل:

-       ماذا يُمكن أن يحدث؟
-       ما الإمكانات المادية والمعنوية للتفاعل مع ما سيحدث؟
-       كيف سأفعل؟
-       ما نظرتنا للمستقبل حيال الصعوبات؟
من هذا المنطلق لعلّ هذه إشارات ولمحات في نقاط وخطوات يجدر الاعتناء بها في مستقبلنا الدعوي، وتكشف ما يُمكن أن يفيدنا في مستقبلنا من خلال حاضرنا الذي نعيشه لنقيس الأحوال المستقبلية بسبب النظر في الحاضر لاحتياجات المستقبل؛ ولما نستفيده من خبرة متراكمة، وتجارب سابقة ماضية؛ تتفتح لها البصائر والأبصار؛ مع إحداث جانب الاقتدار الإنساني واهتبال الفرص المواتية، فليس النظر في الماضي إن استنبطت منه الدروس والعبر، والإفادة من التجارب والخبرات؛ سيعطينا المزيد المفيد من العمل للحاضر والمستقبل : "كلما زدت من النظر إلى الوراء كان ما يُمكنك رؤيته فيما هو آت أكثر"([1]).
 
* ماذا يحتاج مستقبلنا الدعوي؟!

أولا:
(تحسين صورة الاسلام مما جرى تشويهه من الملحدين والمتطرفين)

دخلت تشوهات كثيرة في عقل كثير ممن يدين بالإسلام؛ وأدى بهم لحيرة واضطراب في الفكر؛ بسبب ممارسات ساقطة عن الاعتبار السليم؛ وهذا أثّر على غير المسلمين؛ ممن يُصابون بالذعر والخوف من الإسلام؛ بتشويه وسائل الإعلام له؛ وإظهار كل ما يرمز له بصورة قاتمة بشعة..
ومن تأمّل سيرة رسول الله  وجدها حريصة على أن يفهم غير المسلمين على ما هو عليه وألا يناله تشويهاً ممن كان؛ ولهذا لم يقتل ﷺ المنافقين لئلا يتحدّث الناس أنه يقتل أصحابه، وترك ﷺ الحبشة يلعبون في المسجد، وقال: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة"([2]).

ثانياً:
(حكمة الممكن في مجانبة الاصطدام بالمعارضين)

الأصل في أيّ عمل مجتمعي يقوم به المرء أن يواجه في طريقه ومحيطه الدعوي؛ المُحبط والمُثبّط، والناقد والحاسد، وليس العمل الدعوي ببعيدٍ عن هذه المواجهات؛ بل هو الأصل فيها، لأنّه يتعلّق فيما يُغالب أهواء الناس غالباً.
فالداعية يتميز في حكمته بدعوته مع ما يحفها من علم وحركة؛ وما لم يتّسم بهذه الصفة المُباركة وإلاّ فإنّ كثيراً من جهوده التي بناها ستذهب هدراً؛ وتذوي ورقته بين الناس؛ وكم مِمّن بنى صرحاً عالياً آل مآله إلى الانقضاض والانمحاق؛ لعدم إحسانه في بدايته بناءً وأصولاً فكانت مآلاته سيئة، وعاقبته وخيمة ليس عليه فحسب؛ بل على ما حوله؛ فالبنيان إذا تهدّم وانهار تأثر شيء مِمّا حوله؛ فتنعكس انهداماته على جيرانه.
والداعية إلى الله حكمته تنبع من حكمة القرآن وهي الصلة التي ينبغي أن يُوصل نفسه بها، إضافة لما يشرح ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومسيرته في تعاملاته الدعوية مع المسلمين وغيرهم سواء أكانوا من المناوئين أو الموائمين، ومنهج عموم الأنبياء والمرسلين في خطابهم لقومهم ودعوتهم إيّاهم.
إنّ استثمار الخير عند المرء وإن أسرف في أمر دنياه، وأجحف في دينه، قد يكون سبباً لحسن استقطابه لما يُفيد المسلمين، لاستفزازه من نقطة يُحسنها وإن كانت التي يقوم بها ليُبادر للصالحات ويُحجم عن المُحرّمات، وهي فطنة في علاج الخطأ على الرُّغم من ظهوره البيّن؛ ويشهد لذلك أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ فقال: إن فلانا يصلي الليل كله فإذا أصبح سرق ! فقال : " سينهاه ما تقول" أو قال : ستمنعه صلاته "([3]).
كما أنّ استخدام المال لتأليف قلوب الناس مما يُساهم في الدخول إلى دعوة الإسلام؛ حتّى يدخل الشخص ما يُريد إلاّ المال؛ فإذا تطهّر قلبه بروحانيات الإسلام وإيمانياته؛ زال تعلق الدنيا في قلبه، وجعل المال مطيّة له في العمل للآخرة؛ وقد روى الإمام مسلم في صحيحه أنّه "مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ". قال أنس: "إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا، فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الْإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا"([4]).
لا ريب أنّ الداعية سيجد كثيراً ممن يعترضون الطريق، ويريدون الإساءة لذاته، أو النيل منه؛ فإذا ما استطاع أن يُنحي أكبر فئة، ويكسب البقية نحوه، ويتألف آخرين؛ كان في ذلك قدرة ريادية وإدارة نظامية فيما يُفيد الدعوة الإسلامية؛ ولعلّ مما يُجلي هذا أنّ أبا محذورة كان حسن الصوت، غير أنّه لم يستثمره في الصالحات؛ فقد حكى كيفية تعامل النبي صلّى الله عليه وسلّم مع الخطأ الذي وقع به كما في الحديث : لمَّا خَرجَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مِن حُنَيْنٍ ، خرجتُ عاشرَ عشرةٍ من أَهْلِ مَكَّةَ نطلبُهُم ، فسمِعناهم يؤذِّنونَ بالصَّلاةِ فقُمنا نؤذِّنُ نستَهْزئُ بِهِم ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ : قد سَمِعْتُ في هؤلاءِ تأذينَ إنسانٍ حسَنِ الصَّوتِ . فأرسَلَ إلَينا ، فأذَّنَّا رجلٌ رجلٌ وَكُنتُ آخرَهُم ، فقالَ حينَ أذَّنتُ : تعالَ . فأجلسَني بينَ يديهِ ، فمَسحَ على ناصيتي وبرَّكَ عليَّ ثلاثَ مرَّاتٍ ، ثمَّ قالَ : اذهَب فأذِّن عندَ اليتِ الحرامِ.... وذكر وصف الأذان".([5]).
فلم نجده صلّى الله عليه وسلم قد عاقب المستهزئ؛ أو حكم عليه حُكماُ قاسياً؛ بل استقطبه للعمل معه، وبات من مؤذني الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وجذبه النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل الخصال في شخصيته من خلال صوته الحسن؛ واستطاع أن يغرز فيه قدرته على الأذان؛ فتعامل معه بروح الرحمة لا التشفي والانتقام؛ مع أنّ الاستهزاء والسخرية بالأذان ليس بالأمر الهيّن.

ثالثا:
(عرض حقائق الإسلام).

من القضايا التي يهم الحديث عنها عرض الحقائق الدينية التي تقوي من مكانة الإسلام في واقع المسلمين؛ بل في غير واقعهم الإسلامية.
ومن الجوانب المهمة في ذلك:
-       بيان دلائل الربوبيّة.
-       تذكير الناس بعلامات النبوة.
-       ربط حقائق التوحيد بطريقة القرآن.
-       توضيح مقاصد الشريعة، وكُلّيات الدين.
-       تبيين محاسن الإسلام.
-       تجديد الأخلاق والآداب والقيم
-       شرح السيرة النبوية، واستنباط الدروس والعِبر.
-       تعليق الناس بسيرة الخلفاء الراشدين.
-       تفعيل الحديث عن الحقوق والقِيَم.
-       إبداء روائع حضارتنا.
-       دراسة أسباب نشأة الدول وأسباب سقوطها، وإظهار جوانب النقد.

رابعاً:
(التشجيع على الدراسات الإنسانية والاجتماعية).

من أراد التأثير في المجتمعات فعليه أن يقرأ أحوالهم، والأنماط التي يعرف بها طبائعهم؛ ولهذا قيل: لا يفيد الوعظ إلا بثلاث :حرارة القلب، وطلاقة اللسان، ومعرفة طبائع الإنسان.
كلما أمعن الشخص في علم الاجتماع والدراسات الإنسانية حاز على قدرة فهم الواقع والوقائع، واستطاع أن ينبي منظومة كاملة يحسن فيها التوقع.
عدد هائل من القيادات المسؤولة في الدول المعاصرة الغربية أو الشرقية؛ كانوا مِمّن تخرج من الكليات الأدبية الإنسانية والاجتماعية؛ وقاموا بدراسات ضخمة في واقعهم بغية التأثير عليه، ورسم تحولات هائلة نحوه، وتغيير نمطية التفكير، والتحكم بالعادات والتقاليد.
حريٌّ بالدعاة المصلحية أن تكون لديهم خبرة حقيقية في معمل الفكر الإنساني والاجتماعي؛ وأن يرفعوا سقف معارفهم الإنسانية ويُحسنوا من فهم طبقات المجتمع، ويدرسوا نفسياتهم، والبيئة المحيطة المؤثرة عليهم، ويفهموا آراءهم الفكرية، وموروثاتهم الآبائيّة، ويدركوا المؤثرات التي تحكم نُظُمَهُم، ويعرف القوانين التي تسوس البلد، ومدى التزام الناس بها من عدمه، ويقيسوا درجة التدين عندهم، وهل هي ظاهرة حقيقية أم تدين شكلي ظاهري، ويبحثوا في أحوالهم الاجتماعية من حيث الفقر والغنى، وطبيعة الوظائف والمِهن والصناعات التي يهتمون بها؛ فذلك مما يُساهم في التأثير الحقيقي بدعوته؛ وبه ينالوا منزلة الرشد الدعوية التي تجعل الداعية مؤهلاً للولوج في الناس؛ وما بُعث كثير من الأنبياء والرسل إلاّ بعد أنّ بلغوا أشدّهم وجاوزوا الأربعين؛ فتكامل لديهم منظومات المعرفة البُلدانية والاجتماعية والنفسية وأحوال الشعوب.
وثمّة حقائق يحسن توضيحها: فإنّ شعوبنا المسلمة ليست إشكالية غالبيتهم مع الدين؛ بل إنّها فطرية بتدينها؛ وقد تحصل مؤثّرات أخرى تؤثر على تدينهم؛ فتتصادم مع من يتحدث في الدين لأسباب مختلفة؛ فعلى كثير من الدعاة أن يدرسوا هذه الإشكالات وكيف يرفعوها من الواقع.
فشعوبنا المسلمة لديها عاطفة دينية قويّة؛ تجعل المرء منهم إن استفزه شخص في الإساءة لرسول الله أو للقرآن؛ خرجوا زرافات ووحداناً بإعلان مظاهرة عارمة للدفاع عن سيدنا محمد؛ غير أنّها نادراً ما تطبق سنّة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فخليق بكل داعية أن يكون باحثاً مُفكّراً في أسباب ذلك؛ وكيفية علاجه..
وشعوبنا المسلمة تحتلّها الكثير من الجاهليات التي استمدّتها من الشرق والغرب؛ بسبب ضعف مناعتها الذاتية، والاحتلال المباشر، والغزو الفكري، وقلّة المعرفة بتاريخها الديني، ومفاهيمها الإسلامية؛ فكانت مَعَامِلَ تجربة لغيرها من الغزاة؛ مما يستوجب على الدعاة أن يفتّشوا عن الأسباب والمسببات، ويدرسوا سبل التغيير، وقوانين الإصلاح؛ لإزالة التراكمات التي طغت في واقعنا.
لا غرو بعدئذٍ أن نرى عدداً من علماء الإسلام ومفكريه يحثُّون طلبة الشريعة على فهم ودراسة علم الاجتماع وما يلتصق به من تفرعات نفسية أو سياسية أو اقتصادية أو تربوية، وغيرها؛ كي يكون لديهم معرفة بعلوم الدين والدنيا؛ كما أوضحه الأستاذ والشاعر الهندي المشرقي محمد إقبال؛ فيما يقول الشيخ الطاهر بن عاشور: أنّ من أسباب ضعف الباحث الفقهي عدم عنايته بعلوم الاجتماع مع حاجة الأمة له([6]).
فالخبرة والمهارة والمعرفة بشؤون المجتمع مما يجعل المرء مقتدراً على فهمه على النحو الصحيح؛ ومن لم يكن أهلاً لذلك لم يستطع أن يؤدي رسالته؛ وقد جعل الإمام ابن تيمية بعض مسائل القتال والحرب من هذا القبيل فقال ابن تيمية: "والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا فأما أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا"([7]).
من هنا نجد إشادة العلماء بكتاب المقدمة لابن خلدون وما فيها من خِبرات وتلمسات لحياة الناس الاجتماعية؛ ومعرفتها وفهمها، ومثله كتاب تحصيل النشأتين وتفصيل السعادتين للراغب الأصفهاني، وإغاثة الأمة بكشف الغمة للمقريزي، وغيرها من الكتب التي بحثت في الشأن التاريخي الاجتماعي؛ كما في تعليقات ابن كثير في البداية والنهاية على بعض الأحداث، والذهبي في تاريخ الإسلام وغيرهم من العلماء المتفحصين.

خامساً:
(متابعة الاختراعات القادمة والتفكير في صياغات دعوية لها)

لئن كان مكتوباً علينا أن نبقى منتظرين لما يمدنا به الشرق أو الغرب من اختراعات وابتكارات؛ فليكن منّا على الأقل قدرة لاستغلال ما تتنامى إليه مسامعنا وتترامى إليه أبصارنا لنجعلها ضمن خططنا الدعوية القادمة.
في كل عام يُعلن عن قرب مواعيد لمعارض عالمية أو دولية؛ لعرض ابتكارات البشر التي ستنزل السوق بعد سنوات؛ أفلا يَهِيبنا ذلك أن نعجّل بفهم كل مخترع جديد؛ لفهم نمطه ودوره؛ وكيفية استخدامه واستعماله؛ وما الإمكانات التشغيلية الدعوية التي تجعلنا سبّاقين للخير في إطلاقه من خلالها قبل أن تنطلق نجوم الشر من أماكنها لاستغلال هذه القُدرات...
طالما سمعنا عن أشياء تحدث عنها جمع من العلماء بتحريمها، أو منعها لسد الذريعة، أو لتوهم غلبة المفسدة على المصلحة، أو لكونها من البدع المُحدثة؛ وتبيّن أنّ أقوالهم لا تطابق الصواب؛ بل قد تراجع بعضهم قولاً؛ وتراجع آخرون فعلاً؛ فما حرّموه قديماً ولجوا به حديثنا فكان فعلهم دليل على انتقالهم من رأيهم القديم للحديث..
لست هنا بمعرض الاستنقاص أو النيل من أحد؛ فقد يبدو للشخص رأي فطير لم يدرسه بعمق؛ فيما أنّ من بادر لدراسة المستحدثات والمستكشفات التي تفيدنا في مجالات الدعوة؛ قد أجرى عليها قواعد الشريعة وقام بعملية استباقية إجرائية لفهم ما يجري عمله؛ فكوّن رأياً خميراً ولم يخرج إلاّ بعد فهم وفقه؛ فأحسن التأصيل ونظر في التنزيل ووجده المكان المناسب لإيجاد البديل.

سادساً:
(العناية بأصحاب المواهب والقدرات والطاقات)

يقوم عدد من الشباب المسلم بكثير من الاختراعات والابتكارات البسيطة إما بمشاريع تخرج من الجامعات، أو يتقدمون بها في مسابقات عالمية؛ أو يُطلقونها وتشتهر أعمالهم ؛ وهم في غالب الأحيان يستقطبهم من ليس من أهل الدين والشريعة؛ ويخدمون بعدها اتجاهات ودول جاهلية..
هؤلاء أنفسهم لو أحسنت الأمّة الدعوية التواصل معهم؛ وكوّنوا لهم مؤسسة لتلاقي الجهود، وتلاقح الأفكار، لحصل من جرّاء ذلك مخرجات عديدة تفيد الأمة والدعوة والمجتمعات؛ بل لكان لهؤلاء دور أساس في خدمة الدين بوسائل الدنيا؛ كما كانت عدّة اختراعات قديمة تهدف لحماية المقاصد الدينية بالقيام بوسائل اختراعية للحاجة إليها؛ كأدوات الاجتهاد في تحديد القبلة؛ وتوسيع بعض الأعمال الحربية لخدمة الجهاد في سبيل الله، وغيرها من الجوانب.
إنّ أمّة لا تعتني بالموهبين منها؛ ولا تُقدّم لهم الكفايات اللازمة لتنشيط قُدراتهم؛ ستبقى في ذيل الأمم؛ لأنّ من وسائل تحقيق العزّة والمَنَعة إيجاد الوسائل المتقدمة التي تحمي قدراتها؛ وتحقق وجودها؛ وإذا حصل تفريط من ساسة الدول الإسلامية في ذلك؛ فالجدير البحث عن أكثر الدول الإسلامية استعداداً لتحمّل أعباء وتكاليف النهوض بالمُبدعين والمبتكرين وأصحاب الكفايات والطاقات؛ إضافة إلى تعاون الدعاة معهم فيما هو أحظ لخدمة الصالح العام، والانتفاع العرفي لخير البشرية والإنسانية جمعاء؛ إذ الدعوة تستهدف عموم الناس.
لا يزيدني أحدٌ من حالة التذمر من واقعنا؛ ونظرة من يقرأ هذا المكتوب بالقفز في عالم الأحلام والخيال؛ فليس كل حُلم لا يتحقق؛ وكثير من الخيالات خيارات وإن أخفق خيار نجح خيار آخر؛ ولا مجال للمستحيل؛ طالما وُجدت النفس المثابرة، والعزيمة المضّاءة، والقدر على انتهاز الفرص التي قد تلوح فيقتنصها المدقق ويجد بها خيراً يتدفق.

سابعاً:
(معرفة موقع القوة في حياة الداعية)

في أحايين كثيرة يستعجل بعض الدعاة فيقعون في الزلل، ويتأخر آخرون فيقعون في العطل؛ وتخطئ القراءة للواقع؛ بناء على المركبات الضعيفة في ذهن الداعية؛ فيتجاوز الحدود، ويتعامل مع المدود؛ وهو لا يعلم أنّه مسنود!

خيارات القوة والضعف؛ ودراسة فقه القدرات والإمكانات؛ هي من أضعف الدراسات الواقعية الدعوية؛ لأنّنا نلحظ أنّ كثيراً من الإخفاقات الدعوية على كثير من الأصعدة كانت من أهم أسبابها عدم وجود أولياء التقدم الذين ذكرهم الله في عدّة مواطن من سور القرآن، حتّى أنّه وصفهم أنّهم:
1.    {أولي الأيدي والأبصار(45)}  [سورة ص].
2.    {أولو بقيّة ينهون عن الفساد في الأرض(116)}[سورة هود].
3.    {أولو قوة وأولوا بأس شديد (33)}[سورة النمل].
لهذا يأمر الداعية بأوامر لا يجد من ينفذها بسبب عدم وعيه لطبيعة المرحلة، وعدم قراءته لنفسيات الناس جيداً، وتكليفهم أكثر من طاقتهم وقدراتهم الزمانية والمكانية وقد قيل: (إذا أردت أن تُطاع فأمر بالمستطاع)؛ لهذا فعمله ضمن حدود المقدور الممكن.
إنّ من منهج النظر في اعتبار مبدأ القوة والضعف أنّ تُمنع بعض الأعمال الصالحة؛ حتى لا تكون سبباً لاستفزاز الآخرين ضد المسلمين، ومن أدلة ذلك ما قاله ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا(110)} [سورة الإسراء] نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به" بل على الرُّغم من أنّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان يعيب آلهة الكفار لبيان عدم تمكنها من الدفاع أثناء مهاجمتها؛ وللطعن في هيبتها في قلوب الوثنيين؛ غير أنّ الأمر حين آل لأن يجترئ كفرة قريش فيسبوا الله تعالى نهاهم الله عن ذلك؛ فقال: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقد فرّع العلماء عليها دليلاً أنّ الطاعة إن أدّت لمعصية حاصلة فالواجب تركها.
نقل القرطبي – رحمه الله – في الجامع لأحكام القرآن؛ فقال: قَالَ الْعُلَمَاءُ: حُكْمُهَا بَاقٍ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَمَتَى كَانَ الْكَافِرُ فِي مَنَعَةٍ ، وَخِيفَ أَنْ يَسُبَّ الْإِسْلَامَ ، أَوِ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَوِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَسُبَّ صُلْبَانَهُمْ وَلَا دِينَهُمْ وَلَا كَنَائِسَهُمُ ، وَلَا يَتَعَرَّضُ إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَعْثِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ "([8]).
إنّ المرء عليه أن يقيس مدى قدرته وقوته في كثير من الأعمال التي يتغيّاها؛ ومن أشرفها عملاً العمل الدعوي الإصلاحي الذي تحكمه موازين دقيقة يحتاج الداعية أن يعرفها لكي تبقى دعوته موصولة ويُحسن الحفاظ عليها.
قد تصل الأحوال بالدعاة إلى تكميم أفواههم؛ فليس من اللائق بهم استفزاز من منعهم؛ بمزيد من السب والشتم؛ فلا طريق المداهنة والنفاق تصلح؛ ولا طريق السب والشتم تُرجّح؛ بل طريق الصبر ومحاولة كسب الفُرص؛ بل قد يكون ذلك من مصلحتهم؛ ليهيئ الله تعالى لهم جيلاً جديداً قد مارس الكثير من الغواية؛ وسُمح له القيام باللهو والطرب وتنمية المال بشتّى الأشكال؛ ليعيش حالة من المتعة واللذة والاستهلاك؛ فإذا أفلسوا في خدمة أجسامهم؛ هيأهم الله لمرحلة قادمة تتراخى فيها التحكُمات بالدعاة؛ فيكونوا خير من يستمع لهم؛ وتدفعهم الفطرة للبحث عمّا يسقيهم ماء الحياة؛ فيكون ذلك خيراً بعد تعطيل عمل الدعاة؛ ويكون عموم هؤلاء متعطشين لغذاء الروح؛ ولا يلتفتون لأي سقيا؛ بل كما قال تعالى: (يسقى بماء واحد) (قد علم كل أناس مشربهم).
ودائماً ما يحسن التنبيه عليه أنّ من وصلت به الأحوال لمرحلة العجز فلا يُكلّفه الله شيئاً؛ فإذا استطاع أن ينشر دعوته في منطقة أخرى فحسن؛ وإن لم يستطع فليُقبل على خاصّة نفسه وليُحاول دفع المنكر بأحسن الطرق؛ والأمر بالمعروف بأحكم الوسائل؛ وينتظر مدد الله تعالى؛ فإن كان الزمن لا ينتظر فإنّه جزء من العلاج.

ثامناً:
(الانفتاح الدعوي على مؤسسات المجتمع).

إنّ بقاء الداعية إلى الله في المساجد أو كليات الشريعة أو دور الإفتاء أو مؤسسات القضاء الشرعي، وغيرها مما يُشاكلها يحد من سعة رحاب الأماكن التي تطرقها أقدام الدعاة؛ تفاعلاً مع الصواب الذي يُقام في هذه المؤسسات، أو إرشاداً وتوضيحاً لكثير من الجوانب التي تحتاجها المؤسسات.
من المفيد أصالة أن يُفكّر الدعاة أنفسهم خاصّة من المقتدرين مالياً أو من لديهم علاقة مع ثقات الأثرياء بصناعة مؤسسات تنموية وثقافية تتكفّل بالصناعات المدنية التي يحتاجها المجتمع وإشرافه على ذلك؛ لكي يكون هذا درساً عملياً للناس أنّ الداعية فعّال لا قوّال، وأنّ خطابه ينسجم مع العمل المؤسسي الواقعي وليس مجرد فقاعات في الهواء؛ وحين تؤسس هذه الفكرة ستكون خلفاً وعقباً لمن بعده ممن يفيدون منها وهي خير وراثة دعوية تترقبها الأجيال اللاحقة؛ كمؤسسات الوقف الإسلامي، ومؤسسات البنوك الإسلامية، وبناء المراكز العلمية، وتأسيس المستشفيات، وكذلك ذلك عبر إطاره الدعوي الذي يعمل فيه، فليس المراد بناء حجر على حجر بل تثمير معاني العبادة الخالصة والألوهية الصحيحة في قلب البشر؛ وجلبهم إلى الدين من خلال المؤسسات التي تجذبهم إليه.

وإنّ من المواطن كذلك التي تسترعي انتباه خُلًص الدعاة الواعين؛ والمصلحين المُوجّهين؛ عدد لا بأس به من المؤسسات، ومنها:

(1) عمارة المساجد معنوياً وخطابياً:

لا تنتج العمارة الحقيقيّة من بناء الصروح وتشييد الجسور وإقامة المؤسسات إلاّ بالبدء بالعمارة الحقيقيّة لبيوت الله، وإقامة مساجده على أرض الواقع؛ فالمساجد بقاع شريفة تعطي ما حولها من الشرف بقدر رغبة الناس فيها؛ لهذا كان من اللازم ربط العمارة الدعوية بالعمارة المسجدية؛ لكنّ العمارة المسجدية لها شرطان:
1. أن يكون من قام بإعمارها من أهل الدين العاملين به المرتبطين بالله ولا يخافون غيره، لا أن يعمرها المشركون المنافقون فالله يقول:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ(18)}[سورة التوبة].
2. ألاّ تُلهي عمارة المساجد ولو كان البيت الحرام عن العمل لهذا الدين ونُصرته وحمايته من كيد الأعداء وتربّصهم؛ فالعدو بتربصه الدوائر بالأمة ؛ قد يُخّرب مساجدها ويُحوّلها إلى ثكنات عسكرية واصطبلات لعدّته وعتاده؛ فمعنى الاهتمام بها إعطاءها القدر اللائق بها ولا يطغي على غيره فالله يقول: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله (19)}[سورة التوبة].
فكانت البداية الدعوية العمرانية من بيوت الله، فمن أحسن معرفة العمران الحقيقي أدرك مآلته المنصبة عليه في العمران الدنيوي، وتوصل لنتيجة مفادها أن كل عمران دنيوي لابد وأن يرتبط بالعمران الديني؛ ومن هنا تكون الانطلاقة والوثبة الكبرى في تحريك سفينة الحياة ودفّتها نحو مرضاة الله، ودعوة الناس لمقاصد الدين وأخلاقيات الشريعة.
وهذا يسوقنا للحديث عن إصلاح الخطاب المسجدي في المحاضرات والخُطب؛ فقد قيل :"هناك ثلاثة أشياء مهمة في الخطاب : من يلقيه؟ وكيف يلقيه ؟ و ما الذي يقوله؟"
كثير من الخطب المسجدية ليس فيها مسؤولية ذاتية للمتحدث أمام الحضور؛ فيتحدث الخطيب بما يدور في عقله دون النظر لتنوع الحضور واختلاف طبقاتهم !!
وكثير من الخطب المسجدية تذكر مشكلات الواقع بكثرة؛ فيسمع الحضور أشبه ما يكون بنشرة أخبار؛ دون إشارة الخطيب لحلول وبدائل وفكر المواجهة لمشكلات الواقع!
المُشكل في هذا المجال أنّ اهتمامات الخطيب أو المُحاضر قد يكون نخبوياً لا عاماً؛ فيتحدث بطريقة علمية لا يفهمها الكثير؛ فيجب مراعاة الحديث النافع لعموم الحضور!
يحسن مراعاة الخطاب المسجدي الاختلاف البُلداني في أقطار الأرض؛ فكل أهل بلد طبيعة خطابهم يُستحسن أن يعتمد على أصولهم الفقهية، وطبائعهم العرفية الصحيحة.
والخطاب المسجدي لمن عَقَله خطاب تربوي؛ فلتُصان المساجد عن البذاءات اللفظية؛ ولو بدعوى الغيرة على الدين؛ بل تناقش الأمور بِحجّة فهي خير محجّة؛ و لكثرة تشويه الخطاب المسجدي/المشيخي؛ وتأثر بعض الحضور بالنظرة السيئة للخطباء؛ فليكن الخطاب حاملا أجواء التبشير لا التنفير؛ والتيسير لا التعسير، والتشجيع لا التثبيط.
في بعض الأحيان يتحدث المُحاضر أو الخطيب في المسجد حديثاً لمن لا يملك من أمره شيئاً وعلى رأسهم الخطيب نفسه؛ والدور الرئيس للخطاب المسجدي ترسيخ النصوص القرآنية والنبوية في عقلية الحضور؛ وضخ معانيها وتقريب مفهوماتها لهم؛ وتوجيههم بواقعية نحو العمل المطاق.
وبعض طلبة العلم والوُعاظ حين يقفون لمخطابة الناس ووعظهم يُعطونهم صورة مثالية عن سيرة سلفنا الصالح؛ ويقدّمون أفضل ما لديهم من عبادات وأعمال صالحات وتنسكات؛ لكنهم يغفلون جانبهم البشري؛ فأفراد السلف الصالح على عظمة منهجهم؛ وكثرة عباداتهم؛ إلاّ أنّهم بشر لدى كل منهم قصور من جهة؛ بل أخطاء في بعض المواقف؛ وهم مختلفون بتنافسهم في العبادات؛ بل تعبدات بعضهم تخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة؛ والمراد أن نعطي الجمهور المستمع الصورة المتكاملة لطابع السلف الصالح البشري.
إنّا وإن تبنينا منهجية الإفادة من سيرة سلفنا الصالح؛ لكن علينا أن ننصح الناس وندعوهم بما يقدرون عليه؛ لا أن ندعوهم لرؤية خيالية حالمة، وننتقي أفضل مواقف السلف في العبادة، وندعوهم للقيام بها؛ وطلبة العلم أنفسهم وعموم الوعاظ لا يقدرون أن يقوموا بما يُذكّرون الناس به، وقد يتفوق أحد معاصرينا على عبادة المتقدمين من الصالحين، لكن أن يكون عموم الناس حالاً بالعبادة كعموم السلف فأمر يصعب مناله؛ وإن كان يحسن خياله.
وكثير من الدعاة أثناء حديثهم عن مُشكلات الواقع؛ يذكرون أفضل الصور عن التاريخ الإسلامي ؛ حتى يُخيّل للمستمع أنّ الناس كانوا يعيشون في حياة لا يوجد فيها ظلم ولا حرب ولا سوء؛ مع أنّ الواقع يقول أنّ تاريخنا فيه الكثير من جوانب الخير؛ وفيه مما تتجرعه الأمم من الحروب والكوارث والمعارك والظلم والجور؛ وحينما يتحدث المتحدث عن رسم صورة رائعة لمن كانوا سابقاً؛ ثم يهاجم أمّة اليوم بكونها تائهة.. ضائعة.. نائمة.. حائرة.. غافلة.. متكاسلة.. مُخدّرة؛ فهو وإن كان خطاباً توبيخياً تهجمياً ضمن حملات من حجم الصعوبات والآلام التي تتجرّعها أمّتنا والعذابات التي تعيشها، فهو خطاب اليائس الصاخب؛ ولن يُجدي نفعاً أو يكون مؤثراً؛ فالخطاب الناجح الذي مذ أن يُنبِّه على أخطاء أمَّتنا؛ فإنَّه يجعل جُلّ خطبته في ذكر الطرق والأساليب العمليَّة التي تستعيد الأمَّة فيها كرامتها؛ ويكونُ أول المبادرين لذلك!
لقد سئمت الأمّة من خُطباء الخَبْط والخَطْب؛ وقد ملّت من (الفكر الحطبي) الذي يحتطب أفكاره من ساحة عقله الباطن بما فيها من عُجَرِها وبُجرِها؛ وهو لا يُحسن التمييز بينها؛. فيضخُّها جيمعاً أمام الحضور؛ يظنُ أنَه سينفعهم وقد يقرصهم بأفكاره أكثر مِمَّا ينفع!
إنّ من يقوم بالخطاب المسجدي الواعي؛ كالطبيب النِطاسي بين يديه المرضى الحائرون؛ فإنَّه يُحسن تشخيص مرضهم؛ ثم يصف لهم ذلك الدواء الفاعل ويُذكّرهم به أكثر من مرضهم؛ لا أن يجلس معك فيحدّثك عن وصف الداء وأنَّ هذا الجسم مريض ومريض ومريض!!
إنّ الواقف بين يدي المصلين أثناء معالجته لمشكلات الواقع ألاّ يلقي النصوص الشرعية على مسامع الحضور بداية؛ ويقوم بإعطاء موعظة علمية عامة؛ لربما تكررت على مسامعهم مراراً؛ بل تُقلب المُعادلة؛ ويُعادُ للنصوص الشرعية مكانتها وعظمتها في قلوب العباد.
ليحاول أن يفكّر في هذه المشكلات وحصرها و تقسيمها؛ وسؤال المجتمعات عن كُنه المشكلات؛ فإذا عاشها وعرفها وأدرك مخاطرها الدقيقة، وجمع تراكيبها وطريقة تشكّلها؛ وقام مقامه مبلّغاً فليذكر الناس بها؛ ويوضح تأثيرها السلبي؛ فإذا شعر  الحضور أنّ هذه المشكلات كذلك؛ حتّى صارت مُمَثّلة في خيالهم الذهني؛ ثمّ بدؤوا يبحثوا عن طوق النجاة، وعن أسباب الخلاص؛ فقد فليستنهض فكره الجوّال مستذكراً النصوص الشرعية؛ ومستنبطاً الحلول الدينية؛ بما يُصلح شؤونهم الدينية والدنيوية، وهي ما تجعل عدداً ليس بالقليل يستشعر ملامستها للواقع فكأنّها نزلت على مصاقع قلوبهم بعد سماعها؛ وهو حينئذ يجعل لهذه النصوص حيوية وروحاً تعيش في أرواح الناس؛ فيستشعروا عظمتها؛ وهكذا نزل القرآن في مجتمع الصحابة مُنجّماً مُقسّماً بحسب الوقائع والحوادث؛ ليُثبّت الأفئدة؛ ويهدي الحيران، ويرشد الضال..

(2) الجامعات والمدارس:

إنّ الوجود الدعوي المستقل القائم بالتوجيه والتنويه بالإرشادات الإسلامية؛ وجميع أشكال الدعوة المناسبة للجو المدرسي والجامعي؛ مع المقدرة على التنسيق والتعاون والتكاتف الأخوي بين الدعاة من أهم الجوانب التي تتشكل بها مفاهيم الناس، وفيه توعية بحل الإشكاليات المتعلقة بحياتهم.
إنّ هذه المؤسسات التعليمية علينا في الأساس أن نعتبرها تربوية أخلاقية مؤسسة على وزان الشريعة؛ لكي يتنامى فيها الدور الدعوي الحكيم؛ والتي ستُزهر عطاء وعملاً وتضحية لصالح البلد والوطن والأمة المسلمة؛ فهذه المحاضن بالعوامل الدعوية إذ ستكون فيها القِيم السليمة مزروعة لا منزوعة؛ فيعظم الخير في المجتمع، ويشعر الناس بقيمة الوعي في حياتهم سلوكاً وتطبيقاً.
إنّ حجم تأثير الجامعة – مثلاً – على عموم المتعلمين فيما سيشغلونه من وظائف في حياتهم عمل راقٍ في تأمين فكر المجتمع؛ إذ الجامعة قنطرة للبيئة العملية؛ فإن تغذّى الطالب الجامعي علماً صحيحاً وتربية سليمة، وأحسن الدعاة استغلاله واستثماره لصالح الشعب والأمّة؛ فسيكون طاقة لا يُستهان بها في خدمة أمّته؛ فالفكر السليم سيوّلد حركة سليمة؛ ولهذا كان يقول أحد شعراء الهند:(إن فرعون لو علم أثر الجامعات لما قتل بني إسرائيل ولفتح لهم جامعات)!!
إنّ الانتهاض بنشر المبادئ الإسلامية والقِيَم السليمة ومدافعة مكايد الشبهات؛ سيعمم النفع على الأمة، ويفتح لها أبواب الريادة والاستقلال والنهضة؛ وقد كان الشيخ عبد الحميد بن باديس يقول: "إن الشعب المتعلم لا يُستعمر"([9]).
وكلما انتشرت في البيئة التعليمية معاني العلم والعمل؛ قلّت حجم الجريمة، ومن هذا المنطلق كان يقول الشيخ البشير الإبراهيمي :"الأمة التي لا تبني المدارس تبنى لها السجون"([10]).
إنّ الإحساس الذي ينبغي أن ينتفع ويرتفع به رعاة الدعوة من أهل الخير؛ بات تأثيره في كثير من أحواله حزبي؛ حتى صار كثير من الطلبة يحسبون أنّ أيّة مُبادرة دعوية لها توجه حزبي؛ مما أثّر على الحيوية الدعوية والفاعليّة التغييرية في جسم وروح المتلقين؛ يزيد ذلك حجم التضييق على النشاطات الدعوية من بعض الجهات؛ فلهذا انكمشت الكفاءات الدعوية في كثير من تخصصاتها الأدبية والطبيعية؛ مما ولّد لنا كفاءات مُشوّهة في مجالات السياسية الاقتصاد والبيئة والعمران والطب؛ بل في المؤسسات الدينية ضعف هائل في التأثير الدعوي في تنمية الروح الدينية، واستشعار حس المسؤولية، وتعزيز الفطرة النقية، والتذكير بالعهد والميثاق الذي أخذه الله على عباده.
والأمم من حولنا إذا تعثّرت وأصيبت بالنكبات؛ يُرجعها كثير من خبراءها إلى فساد النظام التعليمي الذي لا يُكسب الطلاب خبرة علمية، ولا يوفّيهم حقّهم بالاحتضان التربوي، ولا يُعطيهم النماذج التطبيقية التي يقومون بها بأنفسهم لصنع المُثل الأخلاقيات ليرعوها حقّ رعايتها في مهنتهم القادمة، وحين هُزمت فرنسا في إحدى هزائمها أَرَجَعَت ذلك إلى النظام التعليمي، وذكروا أن التربية الفرنسية متخلفة؛ وحينما غزا الاتحاد السوفيتي الفضاء وحطّت أول مركبة على سطح القمر، وقف الرئيس الأمريكي جون كنيدي يقول: "ماذا دهى نظامنا التعليمي؟"! بل إنّ ما يحصل من فساد سياسي ورُكوب طغمة سياسية لتكون في سُدّة الحكم؛ من أسبابه الفشل التعليمي والتربوي في الجامعات.
والذي يُقوّم مسيرة التصحيح؛ وجود حجم دعوي كبير؛ يقتنع به الطلاب؛ ليكون مؤثراً في الواقع الجامعي؛ من حيث وجود النظام التعليمي السليم؛ والقدوات التعليمية المقتدرة، مع ما تتزكّى به المؤسسات من الشرعة الإسلامية من خلال تنمية التعاون مع الطاقات الدعوية المؤثرة في المجتمع.

(3) تعزيز إيجاد المصارف التمويلية وشركات التأمين الإسلامية مع تصويبها.

النظام الاقتصادي له دور خلاّق في صناعة الأنماط الفكرية؛ وكثيراً ما يتأثّر الناس ببريق المادة، والتطورات الاقتصادية؛ وهذا ما يحتاجه الدعاة الربانيون ليكونوا على وعي تام بحجم المسؤولية المتعلقة بهم ليكونوا على أُهبة الاستعداد لفهم ما يجري من سوق مالية، ودراية عامة بالتأثيرات الاقتصادية؛ وتشجيع التعاون مع البنوك الإسلامية؛ مع تصحيح الأخطاء، والإرشاد الدعوي لتقليص الممارسات غير الشرعية التي تؤثر على سُمعة هذه المؤسسات البنكية والتأمينية.
إنّ بعض الناس لا تُؤثر فيه آية أو حديث كما يؤثر فيه موقف عملي؛ فوجود مؤسسة اقتصادية سليمة في معاملاتها من ناحية شرعية؛ تتّسم بمعايير الجودة، فسيؤثر في ذهن كثير من الناس في نظرتهم للعمل الدعوي إذ أنّ جزءاً منه مؤسسات إسلامية حطّت بِثِقَلِها بين الناس.
ومن المستحسن ضمن ما نراه من اهتمامات واسعة في مجال الصيرفة والاقتصاد الإسلامي؛ أن تُبدع ابتكارات اقتصادية تُعالج مشكلات مالية مجتمعية؛ فدراسة الحلول والبدائل وتوفير الانتعاش والرخاء الاقتصادي هو الذي يكسر هيمنة الرأسمالية والنيوليبرالية الجديدة الاقتصادية.
إنّ ملكة سبأ بلقيس قال عنها الله تعالى : {وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم(23) } [سورة النمل] لم يجعلها تذعن لسليمان عليه السلام وتعلن إسلامها إلا حينما رأت تلك القوة الحضارية التي كانت بين يديه :{قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين(44)} [سورة النمل]، وهكذا الحال مع من يحاول تزعم سيادة العالم اقتصاديا ونحن على ثقة بمشروعه المتضعضع حالا ومآلا فلن نستطيع هز أركانه إلا بقوة ماثلة تجديدية يوما إثر يوم مع تكييف شرعي فقهي ليراها بين يديه ونصب عينيه، وكثير من الناس لا يقتنع بالفكرة ولو أعطيته ألف نموذج فكري لها ولكن بالاستمرار على دراسة النماذج الفكرية لأن تكون حية عملية.

(4)  التشجيع العملي على صناعة مؤسسات وقفية.

من أعظم ما تُعاني منه البرامج الدعوية؛ قلة المعين، وضعف التمويل؛ وحالة كهذه ينبغي أن تُدرس بعناية؛ لكي لا تكون البرامج الدعوية؛ قائمة على عطاءات الناس وتبرعاتهم فحسب؛ بل تكون من خلفها مؤسسات وقفية تُدر على هذه البرامج الدعوية دخلاً مناسباً؛ ليبقى العمل الدعوي في حالته الدؤوبة؛ ويستمر العطاء ولا يتوقف؛ ولكي لا تكون هذه البرامج ممن قام عليها شخص إن مات ماتت معه؛ وإن مرض تعطلت معه؛ بل تكون طِبقاً للأنظمة المؤسساتية الحديثية؛ بوجود مجلس إدارة يقود العمل المؤسسي إدارياً ومالياً؛ ويصرف الموارد المالية في قنواتها الخاصة؛ ومشاريعها المرسومة لها؛ أو التي تتجدد بحسب الأحوال والظروف.

(5)  الانفتاح على النقابات العامة.

يعزف كثير من الدعاة عن الولوج والاتصال بالنقابات التي تتشكل بحسب المهن والحِرف؛ وهذه النقابات تجمع فئات عديدة ممن يمكن إفادتهم دعوياً؛ بالنظر في احتياجاتهم الشرعية؛ وعلاج ما يمرون به من أزمات برؤية تجمع الفقه بالشرع والفقه بواقعهم؛ وتوصلهم بالمجتمع من حيث الأخلاقيات التي تتأكد ممارستها من كل شخص وما يقوم به من عمل.

(6) تجمعات الدواوين العائلية:

تُوجد ميّزة رائعة في كثير من بُلداننا وهي تجمعات لدواوين عائليَّة؛ يتواصل الأقارب فيما بينهم، في أفراحهم وأتراحهم وعامَّة ومناسباتهم، غير أنّها يُمكن أن يتداعى فيها عدد من الفضلاء للقيام بواجبهم الدعوي والإرشادي بين أقاربهم؛ فالله تعالى يقول: {وأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ(214)}[سورة الشعراء]، ويُمكن أن يقوم القائمون على هذه الدواوين بأمور عديدة من قبيل:
-  توزيع مطويات دعوية، وأقراص فيها تلاوة مُجوّدة لكتاب الله - تعالى -، ومحاضرات دعوية، وشرعيةَّ، لدعاة وعلماء مؤثرين، وحقائب فيها مجموعة كُتيبات تهمُّ كل أسرة في أمور دينها ودنياها.
- استضافة أهل العلم، والدعاة، والقضاة، وأهل التأثير منهم، بين كل فينة وأخرى؛ للحديث في بعض الجوانب الشرعيَّة وترقيق القلوب، وتعليمهم أمور دينهم.
- إقامة المسابقات وتقديم الجوائز عليها، من ميسوري الحال من العائلة.
- القيام بـ:(صندوق عائلي) لجمع تبرعات العائلة عن شخص أمين منهم؛ للوقوف مع المعوزين والفقراء من العائلة، وتحقيق معنى التواصل الفاعل، والستر على فقراء العائلة = ستر على سمعة العائلة.
- الإصلاح بين بعض الأسر المتخاصمة داخل العائلة، وتفكير كبار العقلاء في العائلة بإعادة اللُّحمة، وتضييق مساحة الخلاف والقطيعة، ففي ذلك خير كبير، وأجر جزيل، فالله تعالى يقول:{والصلح خير(128)} [سورة النساء].

(7) المشاركة الجادة في وسائل الإعلام:

إذا كان الإعلام في الغالب فاسداً؛ فكيف ترتجي منه مواجهة الفساد وفضحه؟!
فصناعة الإصلاح في المؤسسات الإعلامية دور كل داعية ربّاني؛ لإيضاح حقائق الإسلام، وبيان كشف الشبهات الموجّهة إليه.
وحري بأهل العلم والفكر السليم أن يجيبوا في هذه الوسائل عن أسئلة العصر؛ وأغلب الناس يبثوها في مواقع التواصل الاجتماعي..
ويُمكن أن تكون لديهم فكرة في شراء بعض الساعات الإعلامية من بعض المحطّات الضخمة التي يوجد عليها إقبال عام والظهور ببرنامج دعوي مناسب فيه شرح حقائق وبيان تصورات ورد على أباطيل بأسلوب حكيم حسن.
وبكلٍ فإنّ الولوج لبوّابة الإعلام، والظهور أمام الكاميرا؛ من أشدّ الأشياء التي تؤثر على إخلاص الداعية؛ وهذه البرامج الإعلامية ما لم يخلص المرء نيته فيها؛ ثم يتحدث في مجال تخصصه ويعتذر عمّا لا يُحسنه ويصرف جهده في جهة مناسبة، يجيد من خلالها تسويق برامجه لتصل للجمهور المستهدف؛ وإلاّ فمكثه في بيته خير له وأحرى.

تاسعا:
(الاهتمام بالقطاعات الشبابية والنسوية)

لابد من حجم عميق في الإدراك لتغيير ما يجري من الحراك؛ فالمشكلة أنّ الجهود الدعوية عادة تنصبُّ بوتيرة واحدة، ويتكرر العمل نفسه والأداء ذاته؛ ولا نجد معامل تجديدية ورسم لخريطة ذهنية تقوم عليها خارطة طريق فعلية للوصول الى الهدف المنشود.
فالشباب والنساء اليوم هم محط الاستقطابات والتأثيرات فالمؤسسات شرقاً وغرباً تغزو الوطن؛ ولا زال كثير من الدعاة يراوحون مكانهم في الدعوة إلى المألوف المعهود المتعارف عليه؛ ولو أنّه كان طريقاً للدعوة يوازيها أشياء أخرى؛ لم يكن هذا إلا من تأزير الدعوة وتقويتها في كل الاتجاهات.

من أفضل الطرق التأثيرية على القطاعات الشبابية:

* فتح صدور الدعاة للإجابة عن تساؤلاتهم برحابة صدر، مع إجابات معدّة مُسبقة ومُحضّر لها؛ بُغية الحصول على التأثير.
* انفتاح الدعاة على الشباب في مراكزهم وزيارتهم في مناطق ارتياداتهم وتنسيق المحاضرات لهم؛ وردم الهوّة بينهم، وبناء جسور التلاقي، وزرع عملية الدفء الأخوي بين الطرفين؛ وعدم تكبر فئة على أخرى.
* الشباب بشكل عام يأسرهم التعامل الحسن، واللين في القول، واللطف معهم في الحوار، مع القدرة العقلية على إقناعهم والتركيز معهم على الأساسيات وعدم الاستجابة لتفريعاتهم في النقاش إلا بعد إحكام الأصول .
* العاطفة الشبابيّة تحب المدح والثناء؛ وتُقدّر التشجيع والتحفيز على المزيد من سمات التميُّز؛ ولقد استخدم الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الأسلوب مع صحابته الكرام؛ فحين سأله أبو هريرة - رضي الله عنه - يوماً: من أسعد الناس بشفاعتك؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - { لقد ظننت أن لا يسألني أحد عن هذا الحديث أول منك لما علمت من حرصك على الحديث)([11]) وحين سأل أبيَ بن كعب: { أبا المنذر أي آية في كتاب الله أعظم؟ } فقال أبي:آية الكرسي. قال له - صلى الله عليه وسلم - { ليهنك العلم أبا المنذر)([12]).
*  معالجة شبهات الشباب؛ الأخلاق الطيبة، والتعامل الحسن، وتقبُّل الشاب الذي يُلقي الشبهة  بنفس غير منفعلة، بل بهدوء وابتسامة، مستعيناً بالله لدمدمة الشبهة بكل ما أوتيت من قوّة منطقيّة وحُجج شرعية، ويُمكن بيان مقدمات مفيدة للشباب في طريقة تعاملهم مع الشبهة بأنّنا نعيش في عصر السرعة؛ وهذه المعلومة لا يُشترط أن تكون صحيحة؛ لهذا نحتاج بداية للتأكد من صحّة وثبات هذه المعلومة، مع كثرة الشبهات والإيرادات؛ تحتاج لعمق تأصيلات، وثبات حجج وبيّنات، والقيام بفعل تأسيسي تأصيلي تقعيدي؛ لزرع روح الشريعة في قلوب الناس؛ حتّى لا يكون فعل طلبة العلم والدعاة مجرد ردود على شبهات، وأجوبة على إيرادات فحسب؛ ففعل ثمّ بعده رد فعل وانفعال وقتي، بل فعل يتلوه تفاعل مع الأشخاص وتفعيل الأصول الشرعية وإعادة ضّخها بالطرق المشروعة.
ومن مهمّات الأمور تعليقهم بتعظيم الأمر والنهي الشرعي؛ وتقديس حرمات الإسلام وشعائره، من خلال التركيز على عظمة النصوص الشرعية.
كما أنّ الجرأة في مناقشة شبهات الآخرين؛ شرطها أن يكون للمرء علم تام بذلك؛ فكم من شخص يُحاول النقاش وهو عار عن فهم أصول المسألة وجذورها؛ لهذا سيفشل في الإقناع؛ لأنّ فاقد الشيء لا يُعطيه؛ لهذا قد تزداد شبهة الشخص في روعه؛ بسبب ضعف الراد عليه!
لا إشكال في نصيحة الشباب بعدم السماع للمنحرفين في فهم نصوص الشريعة؛ وإنّنا إذ ننصح الشباب بعدم سماعهم من أولئك القوم؛ فليس ذلك ضعفاً في حُجَجِنا؛ أو قلّة بصيرة في منهجنا، فلكل شبهة رجالاتها التي يسمعونها؛ ويُواجهونها بالحجة، لكن الفارغ علمياً يُخشى عليه أن يسمع للانحرافات؛ ثمّ تستقرّ في قلبه؛ فلا تزال به ويزال بها وقتاً محدداً يبحث عن الأنسب في مناقشتها حتّى يهدي الله قلبه.
مع ضرورة توصية الشباب بطلب العلم قهو العاصمة بالشهب القاصفة لقاصمة الشبهات؛ وهذا الوقت يجب فيه على عموم الشباب وخاصّة ممّن يحبُّون المعرفة والثقافة؛ أن يزدادوا بصيرة بدينهم وثوابتهم من خلال طلب العلم الشرعي.

أمّا المجتمعات النسوية فيتطرق لها الداعية من خلال:

*  تقوى الله ومراقبته بعبادة الإحسان في تعامل الداعية عموماً مع هذا المجتمع الذي قد تزلّ فيه أنفس الناس إلى ما لا يرضي الله، والحذر من كيد من يدعو إلى ما لا يُحمد عقباه من الطرفين.
*  ربط طريقة الدعوة الإسلامية في خطابها للمجتمع النسوي بطبيعة الخطاب القرآني، فالمرأة تحديداً تناوشتها المفاهيم المتطرفة والغالية من بعض الفئات الدعوية، وكذلك تناولتها سهام المغرضين من المستشرقين والمستغربين وحاولوا سحبها تجاه مفاهيمهم المنحرفة عن تشبثها بدينها الإسلامي، ولهذا فلابد من الجرأة النقدية على نقد أي قول كان لا يتسم بالصوابية والموضوعية ويُخالف القرآن الكريم أو صحيح السنة النبوية المطهرة، فكم دخل على المجتمع النسوي من خطابات بائسة كان لبعض الدعاة حظ ونصيب منها.
* إشعارهم بخطورة أن يقعوا في فخ مؤامرة لعدو، أو أن يكونوا خطّة يعبر العدو من خلالها للتأثير عليهم، أو أن يكونوا سبباً لضعف الأمّة وهوانها.
* صناعة الدور التأصيلية للمرأة من مراكز تفهيم القرآن وتعليم تلاوته قبل تحفيظه، لتخرج المرأة من البداية عارفة دورها من كتاب الله، بقراءة التفسير الصحيح للآيات القرآنية؛ ليحسن بعد ذلك تفكيرها في الواقع طبقاً لما تعقّلته من الآيات، وينمو تدبرها القرآني نحو الصواب.
* الإجابة عن الأسئلة المُشكلة والمشككة من بعض الغلاة والجفاة بالنسبة للمرأة؛ ومخاطبتها بالقدر الذي لا يجعل الداعية يستسلم نحو ضغوط الواقع فيفسر تفسيرات لا قيمة لها ولا صحّة، كمن يُفسّر حديث ما رأيت من ناقصات عقل ودين بأنّه كان مزاحاً من الرسول معهن، أو حديث لولا حواء لم تخن أنثى زوجها بأنّه طبع الخيانة الزوجية من المرأة للرجل، أو آية وقرن في بيوتكن أنه لا تخرج المرأة من بيتها إلا لضرورة، وغير ذلك من تفسيرات لا تليق ولا تسوغ شرعاً ولا عقلاً ولا عُرفاً.
* علينا أن نعترف أنّ المرأة اليوم بمستواها المعرفي أفضل قبل قرن من الزمان؛ فكثير من النساء مثقفات ومتعلمات ودكتورات ومهندسات ومديرات؛ فما يظنه بعض الناس أنّ الخطاب العاطفي والتركيز على الجانب العاطفي والوجداني وإثارة المشاعير والأحاسيس هو الذي سيؤثر عليها مع الكلمة الطيبة؛ فلم يعد الأمر كما كان عليه سابقاً؛ بل قد يكون حجم التعليم في كثير من البيوت النساء أكثر من إخوانهنّ من الشباب.
*الخطاب العفيف الهادئ يُفيد المرأة بحسن الكلمة ورقة العبارة فتبقى الأنثى بطبيعتها التي لا تنفك عنها حيث تستعذب حلو الكلام؛ لكن الخطاب العقلاني والمنطقي الفكري هو الذي يجعلها تتأسس بأسس سليمة؛ ولا نسل بعدها عن خدمتها للفكرة التي تؤمن بها بقوّة عاطفتها وشدّة حماسها ودفقة إقبالها بعدما تأكدت من صحّة المبدأ الذي تحيا من أجله وتضحي له.
* من المهم ألا يبقى دور الدعاة مجرد منافحون محامون عن المرأة بسبب المؤتمرات العالمية التي تريد أن تنزع عنها الكثير من صبغة الدين في قلوبهن؛ بل أن يقدم الدعاة مبادرات ويطلقوا المشروعات والنظريات مع رسم خطوات التطبيقات لتفعليها وإشراك المرأة بها مع حفظ خصوصيتها.

عاشراً:
(الاحتساب الدعوي في مؤسسات الدولة)

لابديّة يجب التركيز عليها وهي أن يحرص الدعاة على إشعار الدولة ومؤسساتها أنهم شركاء لا أعداء، وأنّ هدف الجميع خدمة الوطن والبلد، وأن تكون هنالك رسائل إيجابية يطلقها الدعاة تجعل الناس يشعرون أنّهم يعيشون وإياهم في مركب واحد.
لم يحسم كثير من الدعاة ما يؤهلهم للوصول لمواقع تأثير بل أن يكون قوارب نجاة عند أصحاب القرار؛ فأغلبهم بعيد عن كثير من المؤسسات الإعلامية، والوزارات المعنيّة بالِشأن المجتمعي؛ وتقل دراساتهم في الأصل في هذه الجوانب ويقتربون من الوزارات المعنية بالجانب الشرعي البحت كوزارة الأوقاف، والإفتاء، والقضاء، وكليات الشريعة.
وقد يقول قائل: إنّ هنالك عوائق تصطنعها بعض الأنظمة حتى لا يرتوي المجتمع العام بالإرشاد الدعوي؛ ويُضيّق عليهم في ذلك، وهذا صحيح من وجه؛ غير أنّ حكمة الداعية المُشبعة بروح الحماس؛ لن تعرف شيئاً في الطريق الدعوي يُساوي المستحيل، وإن كانت فيه صعوبة؛ فالصعوبة هي التي تحكّ العقل، وتُثمر النظر، وتعقلن العمل، وتجعل المشقة تتعاظم لأجلها الأجور..
لقد خلق الله الدعاة ليبتليهم ويبتلي بهم، وكثير من الدعاة يظنّ أنّ طريقهم مسلوك مُيسّر؛ وهذا أصل ينبغي أن يكون هو المستثنى؛ إذ أنّ الداعية هو الذي يشق الطريق لغيره، وهو الذي يُذلّلُ الصعاب؛ وإلا لما كان هنالك فضلٌ للداعية على المدعو؛ فالداعية يَشْرَع والمدعو يَتْبَع..
والداعية ما لم يكن مُفكّراً في طُرق التصويب الدعوي فلن تحصل دعوته على النجاح والفلاح؛ بل إنّها ستكون دعوة طائشة، وأكثر ما يُغيظ الكفّار والمنافقون في عمل الداعية؛ حكمته، وأكثر ما يُفرحهم ويُسعدهم؛ حماقته..
وليس وجود العائق الشائك في أيّة موانع دعوية تجعل الطموح الدعوي لدى الداعية متوقف؛ فالداعية لا يفكر بالماضي وأحزانه؛ ولا يستسلم للحاضر وتعقيداته؛ ويصنع للمستقبل أدواته بل يُحاول أن يُهيّئ الظروف له؛ فهو في جميع الأحوال جموحٌ لا يُمكن السيطرة عليه ولا يُقهر، ولا يرضى طريق الجُنوح والتوقف.
وإنّ من أعظم وسائل الاحتساب الدعوي أن يستشعر الداعية معاني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي حراسة الرأي العام، وبه يدرك مفهوم الحسبة الإسلامية المواجهة للحرية الليبرالية غير المنضبطة بقيود دينية إسلامية، ولا حدود عقليّة رشيدة، فالإسلام أطلق لنا الكثير من مجالات المباحات والمسكوت عنه وما عفا الله فيه عن العباد أكثر مما حرّمه عليهم؛ لهذا الأصل في الأشياء الإباحة مالم يرد دليل على منعها؛ وهي أشياء قليلة حدّها الشرع بحدود لا يجوز تعدّيها ولا الاقتراب منها لأنّ مجرد الاقتراب منها قد يوقع المرء ففي الخطر وينال به الحظر.
إنّ الدعاة قبل غيرهم من أجهزة حفظ الأمن في الدولة ومؤسساتها؛ صمَّام أمان المُجتمع ووقايته من الشبهات والشهوات؛ وهم بقوّتهم التأثيريّة أقدر على حفظ الأمن والأمان حين يُحسنون صناعة مفاهيم الاحتساب، وتطبيق فريضة قال عنها جمع من العلماء أنّها الركن السادس في الإسلام لكثرة حث الشريعة عليها، وهي شعيرة الأمر بالنشر المعروف بين الناس وحثّهم عليه وإقناعهم به، وتنبيههم على خطورة المنكرات والرذائل وتخريبها للديار؛ حتى أنّ ابن العربي يقول: (السكوت عن المنكر تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات وركوب الذل من الظلمة للخلق)([13]).
إنّ العقل الجمعي الدعوي يُدرك أنّ أصحاب المعصية يضرون مجتمعهم بأكمله، وقد شبه الرسول –صلى الله عليه وسلم- حالتهم بقوله: (مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء فيصبون على الذين في أعلاها. فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا، فقال الذين في أسفلها: فإنا ننقبها من أسفلها فنستقي، فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعاً، وإن تركوهم غرقوا جميعاً)([14]).
ومن اللازم حتماً أن يلج الدعاة لعقول الناس وقلوبهم بتغيير مورث من تأثر منهم بالفكر الليبرالي حتَّى بتنا نرى شدَّة كراهيتهم لهذه الفريضة؛ ويرون أنَّ قيام بعض الفضلاء لإحياء هذه الفريضة هو من التحكُّم بالناس؛ أو التدخُّل بخصوصياتهم، أو أنَّ منازعة لحريَّتهم..!!!
فيقولون لمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، عدَّة عبارات تدلُّ على استنكارهم لهذه الشعيرة التي أتت بها الشريعة، فترى على ألسنتهم:
" وما خصَّك بذلك؟ "/" وما دخلك به؟ "/" وشو إلك عندي؟! "/ " خليك في حالك" وهي مقولات كانت تُردد سابقاً في قرون سبقت بعبارات مختلفة حين يرون شخصاً يأمرهم بالمعروف أو ينهاهم عن المنكر فيقولون عنه " فضولي" أي أنَّه تدخَّل فيما لا يعينه بزعمهم!!
وقد جعل الإمام أحمد من علامات المنافق اعتباره من ينصحه ويأمره بمعروف أو ينهاه عن منكر أنّه : "فضولي" فحين سئل: كيف يشار إلى المنافق بالأصابع؟! فقال: يا أبا حفص صيروا أمر الله فضولاً! "([15]).
ولهذا فعلى الداعية أن يتحسّس نفسه قبل تحسس طبائع غيره في تقبّل الأمر والنهي، ثم يرى مدى استيحاشه من قلّة دعاة المعروف ورُماة المُنكر، ويبدأ بنفسه من حيث طريقة إصلاحها للواقع، وعدم ألفها المنكرات؛ أو تُسويغها وتبريرها بحججٍ تشرح الضعف النفسي لعدم مقاومتها؛ حتى يغدو الحال كما يُقال: (كثرة المساس تبلد الإحساس)، وقد نبّه عليه الجاحظ فقال: "مما يدعو إلى الفساد، طول وقوع البصر على الإنسان الذي في طبعه أدنى قابل، وطول التداني وكثرة الرؤية هما أصل البلاء"([16]).
على الداعية أنّ يضع نُصب عينيه أنّ البركة في الدعوة متمثّلة في نيل الخيرية التي وصف الله من قام بها فقال: (كنتم خير أمّة أخرجت للناس) ومن المعلوم أنّ الأصوليين علّقوا عِلّيّة الحكم المقرون بالوصف المناسب له، فلا يسوغ إذا أردنا نيل الخيريّة أن نسكت عن القيام بشعيرة الأمر والنهي؛ حتّى لو وقع في ظنوننا أنّ الناس لن تستمع فرائدنا قوله تعالى : { وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ( 164 ) فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ( 165 ) فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) ( 166 )} [سورة الأعراف] لهذا يقول الإمام النووي : "ولا يسقط عن المكلف الامر بالمعروف والنهى عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه بل يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين"([17]).
نعم للمرء أن يترك التذكير إن كانت مفسدته أكثر من مصلحته طبقاً لقوله تعالى "فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى" فمفهوم الآية أنه إذا ترتب على التذكير مضرة أرجح تُرِك التذكير؛ خوف وقوع المنكر كما يقول الشيخ السعدي([18]).
إنّنا نجد مفاهيم تحتاج لتصويب مثل ترك بعض الدعاة النهي عن المنكر؛ خشية من ابتعاد جمهورهم عن الالتفاف حولهم، فيفقدون شعبيَّتهم! ولمثلهم يُقال: (فالله أحقُّ أن تخشوه)، وإنّ من يحض على المعروف فيما هو تارك لإنكار المنكر قد خالف طريقة الأنبياء والمرسلين في دعوتهم، بل جعل المنكر يتفشّى في المجتمع بصمته وسكوته، كما قال ابن قتيبة: "وإنما يقوى الباطل أن تُبْصره وتُمسك عنه"([19]).

حادي عشر:
(تعزيز مبدأ الوحدة الوطنية تحت سيادة الثوابت الشرعية)

كلّما توثّقت صلة الداعية بمجتمعه؛ وتعزّزت هيبته بين عموم المجتمع؛ كان مؤدّى ذلك معنى التواصل الإنساني؛ حتّى مع غير المسلمين؛ فالداعية هدفه أن يصل القلوب، وأن يجذب عموم الناس لدعوته؛ ويُحاول كذلك أن يُصلح الخلل الواقع؛ وإذا كانت آية : {إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم(13)} [سورة الحجرات] ففيها دعوة للتعارف بين الناس؛ و بيان أنّ معدن الكرامة بينهم متمثّلة في التقوى، والتعارف يقتضي التعاون على البر والتقوى ولو مع غير المسلمين طبقاً لقوله تعالى : {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان(2)}[سورة المائدة] وفي هذه الآية يقول ابن عطية في تفسيره: وهذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب؛ ولطف بهم؛ لتنبسط النفوس؛ ويتداخل الناس؛ ويردوا الموسم؛ فيسمعوا القرآن؛ ويدخل الإيمان في قلوبهم؛ وتقوم عندهم الحجة كالذي كان؛ وهذه الآية نزلت عام الفتح؛ ونسخ الله تعالى ذلك كله بعد عام؛ سنة تسع؛ إذ حج أبو بكر ؛ ونودي الناس بسورة "براءة".
وإن من أوجه التعاون ما يكون فيه رفع مظلمة، أو تعظيم حُرمة، أو حماية أمّة؛ أو توحد للدفاع عن غُزاة ظالمين؛ فكل ذلك من أوجه الجواز الشرعي.
وفي سيرة نبينا الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم مقولات ذات دلالات اعتباريّة إذا رُمنا التفكير فيها؛ فأثناء مخاطبته للصحابة عن قوم قريش قال قبل صلح الحديبية:(والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)([20]).
وجه الدلالة: حُسن التصرف الحالي فيما ينفع المستقبل الدعوي؛ بتحسين أي قرار صادرٍ عن أيّة جهة فيه إحقاق لحق تعظيم حرمات الله وشعائره؛ ما دامت كذلك.
بل إنّه عليه الصلاة والسلام يضرب للناس مثلاً في أيّة خُطّة مستقبليّة تحفظ حقوق المظلومين، وتأخذ على يد الظالمين؛ ويحث على التعاون في ذلك مع غير المسلمين؛ فيقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:" شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي وَأَنَا غُلَامٌ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّي أَنْكُثُهُ"([21])".
وقال كذلك: " لَقَدْ شَهِدْت فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهِ حُمْرَ النّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْت"([22]).
وجه الدلالة: أنّ أيّ تحالف جرى بين المسلمين وغيرهم على رد الحقوق لأصحابها؛ ودفع المظالم عن أهلها؛ فإنّ الإسلام يقف معه ولا يُضاده.
يقول ابن القيم في الزاد: "المشركين وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمرا يعظمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى ، أجيبوا إليه وأعطوه وأعينوا عليه ، وإن منعوا غيره فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى ، لا على كفرهم وبغيهم ، ويمنعون مما سوى ذلك ، فكل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مرض له ، أجيب إلى ذلك كائنا من كان ، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه ، وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس"([23]).

ثاني عشر:
(تصحيح المفاهيم وإيجاد البدائل)

لم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بالتعليم؛ بل أعطى الغلام الذي وقع في الخطأ بديلا مناسبا لما كان يفعله، فقد أخرج أبو داود عَنْ أَبِي عُقْبَةَ وَكَانَ مَوْلًى مِنْ أَهْلِ فَارِسَ قَالَ : (شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحُدًا فَضَرَبْتُ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقُلْتُ خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا الْغُلَامُ الْفَارِسِيُّ فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ( فَهَلَّا قُلْتَ خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا الْغُلَامُ الْأَنْصَارِيُّ)([24]).
يشهد له كذلك في تصحيح المفاهيم وفد هانئ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله هو الحكم وإليه الحكم فلم تكنى أبا الحكم فقال إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحسن هذا فما لك من الولد قال لي شريح ومسلم وعبد الله قال فمن أكبرهم قلت شريح قال فأنت أبو شريح([25]).
وبكلٍ فإنّ الذي يتعامل مع الناس ويمنعهم من أشياء عليه أن يُفكّر دوماً في الطرق المناسبة لإيجاد الأفضل من البدائل قدر الإمكان؛ لأنّه ليس كل شيء يُوجد له بديل مناسب أو مكافئ؛ ولكن المنهج العام يُعطي إفادة بالبحث في ذلك؛ وقد أشار الإمام ابن القيم إلى ذلك فقال:[ إذا منع المفتي من محظور دل على مباح... من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه، وكانت حاجته تدعوه إليه ، أن يدله على ما هو عوض له منه ، فيسد عليه باب المحظور ، ويفتح له باب المباح ، وهذا لا يتأتى إلا من عالم ناصح مشفق قد تاجر الله وعامله بعلمه)([26]).
بقي أن أقول: على عموم الدعاة الربّانيين أن لا ييأسوا من الحراك لتغيير الواقع؛ فإنّه إذا منع الله على العبد باباً في دعوته؛ سيفتح له أبواباً أخرى؛ عليه أن يبحث عنها؛ ولا يقصر الدعوة على شيء محدد؛ بل قد يكون ما أغلق عليه نجاة له؛ وما يبحث عنه إن أدرك مفتاحه ولج من بابته لساحته ليرى مدد الله ونعمه التي تترى عليه؛ ويعلم أنّ من جاهد في الله ولأجل نشر دينه حقّ الجهاد؛ أنّ الله سيهديه عدّة سُبل؛ لا سبيلاً واحداً يبقى عليه المرء طيلة حياته، فالله تعالى يقول:{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلنا وإنَّ الله لمع المحسنين(69)} [سورة العنكبوت].
 

-----------------------------------
[1] ) عصر الاضطراب : (مغامرات في عالم جديد)، آلان جرينسبان، ترجمة: أحمد محمود، ط1، (القاهرة دار الشروق، 2007)، ص562
[2] ) مسند الإمام أحمد : (6 / 116، 233) .
[3] ) رواه ابن حبان في صحيحه (2560) (6/300- بتحقيق الأرناؤوط) .
[4] ) أخرجه مسلم : (2312).
[5] ) أخرجه الترمذي (189) والنسائي (632)
[6] ) (أليس الصبح بقريب).
[7] ) (الفتاوى الكبرى5/537)
[8] ) الجامع لأحكام القرآن ( 7 / 56).
[9] ) دراسات و أبحاث في تاريخ الجزائر الحديث و المعاصر لأحمد مريوش (1 / 197)
[10] ) جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ودورها في الحركة الوطنية الجزائرية؛ للدكتور مازن مطبقاني ص 78 - 79.
[11] ) أخرجه البخاري في صحيحه : (99)
[12] ) أخرجه مسلم في صحيحه : (810)
[13] ) عارضة الأحوذي في شرح الترمذي : (9 / 15)
[14] ) أخرجه البخاري في صحيحه :(2493).
[15] ) (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال : (65)
[16] ) الحيوان للجاحظ:(1/ 112)
[17] ) شرح مسلم للنووي : ( 2 / 23)
[18] ) فتح الرحيم الملك العلام، ص164.
[19] ) الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية، ص:61
[20] ) أخرجه البخاري في صحيحه : (2583)
[21] ) أخرجه أحمد: (1567).
[22] ) سيرة ابن هشام : 1/133.
[23] ) زاد المعاد ، ابن القيم : ( 3 / 303).
[24] ) أخرجه أبو داود في سننه : (5123)
[25] ) أخرجه النسائي في سننه:(5387) .
[26] ) أعلام الموقعين، ابن القيم : ( 4 / 121-122


نشر هذا المقال في موقع مركز البيان للبحوث والدراسات

 

خباب الحمد