اطبع هذه الصفحة


زغل الإخاء ( 2) ... العسل المسموم

خالد عبداللطيف


قبسات وهمسات.. نفحات ولفحات.. في زمن زاد فيه "دبيب البغضاء"!
مدارها: شوائب تكدّر الصفاء، وتشوّه وجه الإخاء!
ومدادها: قطرات ندى للأخلاّء.. وعبرات من عيون الأوفياء .

قبسـات

قال الله تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (الحجرات: 12)، وقال سبحانه {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} (الهمزة:1).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لمن سأله: ما الغيبة؟ -: "ذكرك أخاك بما يكره" قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته" (رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه).

لذة الألسن وداء القلوب!

لم يُبعِد من قال: "الغيبة هي الداء العضال والسم الذي في الألسن أحلى من الزلال!"
فهي داء عضال يصعب الفطام عنه لمن أدمنها، وهي سم فتّاك لكنه حلو المذاق في اللسان، وإلا فكيف ومن أين يدخل الشيطان على الصالحين إن لم يكن للغيبة هذا الإغراء؟!
وهكذا.. مع تباعد الزمان، وشيوع الغفلة، واضمحلال النصيجة.. لم تعد "الغيبة" شعار مجالس المجاهرين بالعصيان؛ بل تفشت تفشيا ذريعا في مجالس المتآخين والمتحابين، وأصبحت "العسل المسموم" الذي يدور على موائدهم.
ولأن مداخل الشيطان على الصالحين فيها خفاء ودهاء؛ فإن الغيبة في مجالس المنتسبين للصلاح تلبس "ثياب زور"، وتخادع القائل والسامع؛ فيتداعى هذا إلى ذاك (ويحسبون أنهم مهتدون)، بل وتزيّن لهم أنفسهم في كثير منها أنهم في مقام صلاح وإصلاح!

كلنا ذلك الرجل!
فنّد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بمقالة مبدعة، مع كونها موجعة لاذعة؛ لكنها للغارقين في اغترارهم نافعة رادعة؛ فقال رحمه الله في "مجموع الفتاوى":
"فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون أو فيه بعض ما يقولون; لكن يرى أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة وطيب المصاحبة وقد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم. ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى: تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول : ليس لي عادة أن أذكر أحدا إلا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب; وإنما أخبركم بأحواله. ويقول: والله إنه مسكين، أو رجل جيد; ولكن فيه كيت وكيت. وربما يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله; وإنما قصده استنقاصه وهضم لجانبه. ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة، يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقا; وقد رأينا منهم ألوانا كثيرة من هذا وأشباهه.
ومنهم من يرفع غيره رياء فيرفع نفسه فيقول: لو دعوت البارحة في صلاتي لفلان; لما بلغني عنه كيت وكيت. ليرفع نفسه ويضعه عند من يعتقده. أو يقول: فلان بليد الذهن قليل الفهم; وقصده مدح نفسه وإثبات معرفته وأنه أفضل منه.
ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة والحسد. وإذا أثنى على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح أو في قالب حسد وفجور وقدح؛ ليسقط ذلك عنه.
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به.
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت، ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت، وكيف فعل كيت وكيت، فيخرج اسمه في معرض تعجبه.
ومنهم من يخرج الاغتمام فيقول: مسكين فلان غمني ما جرى له وما تم له، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف، وقلبه منطو على التشفي به، ولو قدر لزاد على ما به، وربما يذكره عند أعدائه ليشتفوا به. وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه.
ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول وقصده غير ما أظهر. والله المستعان" انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
فتأمل أيها المغتر – وكلنا ذلك الرجل! - وابك على نفسك؛ فإن ما ذكره شيخ الإسلام لا يكاد يسلم منه أحد! ولعل من خيارنا اليوم من يصانع ويداري؛ فيسمع على مضض وتأثم (ولعله من أشدهم إثما؛ لانتباهه ودرايته وصمته عن إيقاظ المخدّرين)! أو من يتسلل في هدوء لينجو بنفسه ويدع "أحبابه في الله" في غفلتهم سادرين!

زينة مجالس الغافلين!

فأين اليوم في مجالس المتآخين والمتحابين من ينبري لأخذ هذا الحديث النبوي بحقه:
"من ردَّ عن عِرض أخيه ردَّ الله عن وجهِه النار يوم القيامة" (رواه الترمذي وقال: حديث حسن).
أين ذو همة، وخشية من الله، ويقظة لمكر الشيطان، ينصر الغائب بالرد عن عرضه، وينصر المغتابين بردهم عن غيبتهم، وينصر نفسه - في الوقت نفسه - بالتماس رد الله جل وعلا النار عن وجهه؟!
وأي منكر هذا الذي جعل المولى الجليل جزاءَ من يدفعه ويدافعه: أن يرد عن وجهِه النار يوم القيامة؟!
إنها "الغيبة": داء القلوب، ولذة الألسن، وزينة مجالس الغافلين!!
فإنْ كان هذا حالها ووصفها هو: "ذكر أخاك بما يكره مما هو فيه"، فكيف إذا تحولت إلى افتراء وبهتان؟! فبئس الظلم والعدوان!
عدّها كثير من العلماء من الكبائر؛ لشدة ما جاء فيها من وعيد؛ من وصف الوالغ فيها كمن يأكل لحم أخيه ميتا، وما جاء من وصف شنيع لحال أهلها في ليلة المعراج، لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، قال: "فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" (رواه أبو داود عن أنس رضي الله عنه، وصححه الألباني).
وجاء في الأثر: "إن الإنسان يعذب يوم القيامة فتقدم له جيفة أخيه يكلف أن يأكلها ويقال: كله ميتاً كما أكلته حيا"!

تربية بالصوم..!

ولعل مما يعين على التحرر من أسر الغيبة وإدمانها: أن يتصور المرء حال من حبسه صومه عن الغيبة وغيرها من آفات اللسان؛ خشية أن يرد عليه صومه، فكثير من عوام الناس يحبسون ألسنتهم في أفواههم في نهار رمضان؛ يحسبون أن الغيبة - ونحوها من منكرات اللسان - من المفطرات التي تبطل الصيام مثلها مثل الأكل والشرب عمدا؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"  (رواه البخاري).
‏وقد وجه ابن حجر – رحمه الله تعالى – (في فتح الباري) القول بدخول الغيبة في عموم هذا الحديث، فقال: "وقال شيخنا في شرح الترمذي: لما أخرج الترمذي هذا الحديث ترجم ما جاء في التشديد في الغيبة للصائم, وهو مشكل؛ لأن الغيبة ليست قول الزور ولا العمل به؛ لأنها أن يذكر غيره بما يكره, وقول الزور هو الكذب, وقد وافق الترمذي بقية أصحاب السنن فترجموا بالغيبة وذكروا هذا الحديث, وكأنهم فهموا من ذكر قول الزور والعمل به الأمر بحفظ النطق, ويمكن أن يكون فيه إشارة إلى الزيادة التي وردت في بعض طرقه وهي الجهل فإنه يصح إطلاقه على جميع المعاصي. وأما قوله "والعمل به" فيعود على الزور, ويحتمل أن يعود أيضا على الجهل أي والعمل بكل منهما". ‏
‏ونقل رحمه الله تعالى: في معنى: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" أقوالاً، ملخصها:‏
‏ابن بطال: فليس لله إرادة في صيامه، فوضع الحاجة موضع الإرادة.
ابن المنير: كناية عن عدم القبول كما يقول المغضب لمن رد عليه شيئا طلبه منه فلم يقم به: لا حاجة لي بكذا, فالمراد رد الصوم المتلبس بالزور وقبول السالم منه.
ابن العربي: معناه أن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه.
البيضاوي: ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش, بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة, فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر القبول.
فهذه أقوال العلماء في أثر منكرات اللسان – ومنها بل من أشدها الغيبة - على قبول الله ورضاه وثوابه في الصوم؛ فهل نحن في غنى عن ذلك في غير حال الصوم؟!
أم أنها تربية بالصوم تقيم على المرء الحجة من نفسه؛ أنه إذا كان في حال صومه وجوعه وعطشه قادرا على زجر نفسه وردعها.. فهو في غير ذلك أقدر.
وأما إن كان في حال صومه عاجزاً عن ذلك، ولا سيما إن زين له سوء عمله، وغـره علمه، وانكأ على أنها مُنقصة لا مُبطلة.. فهو في غير ذلك أعجز. والمحروم من خذله الله ووكّله إلى نفسه..!

حيل وأحابيل!

مضى في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ما يزيح الغطاء عن حيل نفسية، وأحابيل إبليسية، تتزين فيها الغيبة في ثياب الزور، وتخرج في قوالب شتى.
وقد لا يبعد عما ذكره رحمه الله: بعض حيل المتلاعبين بالرخص الشرعية، الذين يتذرعون إلى الغيبة بما جاء من ترخيص في أحوال: التظلم والتحذير والاستفتاء، وغيرها مما استنبطه العلماء من أدلته في الكتاب والسنة.
 لكن في خشية الله - جل في علاه – وشدة وعيده.. ما يحدو بأصحاب الرخص إلى أن يحذروا ويحاذروا الوقوع في الداء، ومجاراة الأهواء!
وقد يبدأ الأمر برخصة، ثم تختلط الرخصة بالهوى وحظوظ النفس، فتحلو في اللسان الغيبة.. فيتمادى صاحب الرخصة ويطغى!
وكم من لائذ برخصة وقع في هلكة! و"السلامة" لا يعدلها شيء.
فليكن ديدنك - أيها المبارك - في هذه الفتنة: تغليب الحيطة؛ فلا تصدر في رخصتك عن هواك، وسل أهل العلم عن شأنك وعذرك: هل يحل لك أن تغتاب فيه؟ وما ضابط ذلك وحده؟
فإن علت قسمات وجهك دهشة من هذه المبالغة في الحيطة.. فراجع شناعة وصف الغيبة، وتصوّر تلبسك بها!
ولا تخش "الغربة" بين الناس واستوحاشهم بتحفظك منها، فإن "من أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس ، ومن أسخط الناس برضا الله كفاه الله الناس" ولأجر الآخرة خير وأبقى، وطوبى للغرباء!
 

خالد عبداللطيف
  • إصلاح البيوت
  • نصرة الرسول
  • زغل الإخاء
  • استشارات
  • أعمال أخرى
  • الصفحة الرئيسية