اطبع هذه الصفحة


معاشر الرماة ... دونكم الجبل

حسين بن سعيد الحسنية
@hos3030


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد
فمن على جبل أحد , وجحافل الشرك تنتظر إشارة البدء لساعات الانتقام من محمد عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام , - فالذي حصل في بدر ليس بالهيّن السائغ مروره , فقد قتل الكبار , وانكسرت راية الهيبة , وأصبحت قريش بعد بدر في موقع اللاشي في مجتمع لا يؤمن إلا بالقوة والمنعة – يقف عليه الصلاة والسلام متحدثاً لخمسين رامياً من أصحابه يرأسهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه ويقول : " لو رأيتم الطير تخطفنا فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل عليكم , ولو رأيتمونا ظهرنا على القوم فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل عليكم " رسالة واضحة من محمد عليه الصلاة السلام للرماة , ليس فيها ما يجعل للاجتهاد مكان , ولا للآراء موضع .
تبدأ الحرب , وتلتحم الصفوف , وكل يريد أن يسجّل له في أحد ورقة نصر , وتكون الكلمة للمسلمين , فضربتهم على العدو مؤلمة , وشوكتهم ضاربة , وتفوقهم يتجلى لحظة بعد لحظة , بدأت قريش تتألم , وعناصرها تنسحب , ورايتها تخبو أمام ناظريها , والمسلمون على الأرض يهمّون في جمع الغنائم من خيول ومتاع وأسلحة وغيرها , وهناك على الجبل .. الرماة يشاهدون فصول المعركة , ويلفت انتباههم أن الغنائم تجمع , وأن إخوانهم على الأرض يظفرون بها , فتهفو نفوسهم للمسارعة إلى الأرض ليأخذوا مثل ما أخذ إخوانهم من الغنائم , فيقوم فيهم عبد الله بن جبير يذكرهم برسالة محمد عليه الصلاة والسلام الواضحة والتي تنص على عدم مغادرة الجبل مهما كانت نتائج الحرب ويقول : " أَنَسيتم ما أمركم به رسول الله" إلا أنهم يصرون على مغادرة الجبل ليلحقوا ويأخذوا من الغنائم مرددين " الغنيمة , الغنيمة " , فنزل منهم أربعون وبقي عشرة مع عبد الله بن جبير , وبدأوا في جمع الغنائم , فاقتنص الفرصة خالد بن الوليد رضي الله عنه فسار من خلف الجبل وهجم على ابن جبير وأصحابه العشرة فقتلهم جميعاً ثم ظهر على المسلمين ورفعت راية قريش بعد وقوعها فتذكرت قريش مرة أخرى آلام بدر وعاينت ظهور خالد فعادت بنفوس متوثبة ناقمة واستطاعت أن تهزم جيش المسلمين .

ولنا مع هذه الحاثة هذه الوقفات :-
أولاً : أن من أهم أسباب تخلف النصر عن الأمة وحصول الهزيمة بها حصول الذنوب والمعاصي , وهنا خالف الرماة أمر محمد عليه الصلاة والسلام فبسبب هذه المعصية وبسبب ما حصل بينهم من الفرقة والتنازع والاختلاف ذهب النصر عن المسلمين بعد أن انعقدت أسبابه ، ولاحت بوادره ، فقال سبحانه : "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحُسُّونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم ( ، فكيف ترجو أمة عصت ربها ، وخالفت أمر نبيها ، وتفرقت كلمتها أن يتنزل عليها نصر الله وتمكينه ؟

ثانياً : تأمل في القصة إلى خطورة إيثار الدنيا على الآخرة ، وأثر ذلك أيضاً في في تأخر النصر أو انعدامه , وأن ذلك مما يفقد الأمة عون الله وتأييده ، قال ابن مسعود : " ما كنت أرى أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد قوله تعالى : ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ( .
نعم ... إنها الدنيا يتسلل حبها حتى في قلوب أهل الإيمان وربما خفى عليهم ذلك فيؤثرونها على ما عند الله ، وهنا على المرء أن يفتش في خبايا نفسه ، وأن يزيل كل ما من شأنه أن يحول بينها وبين الاستجابة لأوامر الله ونواهيه .

ثالثاً : لقد غادر الرماة الجبل , و (كم من جبل غادرناه) .
إن حال أمة محمد عليه الصلاة والسلام حال يقض مضاجع المصالحين , ويقلق نفوس العاملين , ويضاعف من أنين القدوات الباذلين .
فأين المصلحون من جبل الدعوة ؟ لماذا غادروه بتنازلات بعضهم عن المبادي والقيم , وذوبان بعضهم وانصهارهم في جسد فتنة أو كيان شبهة ؟ .
أين المربون من جبل التربية ؟ لماذا تكبروا على محاضن كانت تزدان بهم ؟ وعلى طلاب كانوا يفخرون بذكرهم ؟
أين الآباء والأمهات من جبل الأبوّة الحاني ؟ أين هم عن أبناءهم وبناتهم ؟ لماذا ترك الأب أبناءه لأصدقاء السوء وأرصفة الشوارع وميادين التفحيط ؟ أين استشعار الأم لمسؤوليتها كونها القدوة الأولى الملاصقة لكل ابن وبنت يقدمان إلى هذه الدنيا ؟ .
أين أصحاب الأموال والعقارات من جبل الإحسان ؟ ألا يعلموا بأن المال مال الله وأنه قد استخلفهم فيه ؟ ألا يظن أولئك أنهم من هذه الدنيا مغادرون وأنهم إلى ربهم راجعون ؟ فلماذا هذا التشبث بزينة زائلة ومتعة وفانية ؟ أين صور البذل والعطاء يا معشر الأغنياء والتجار ؟
أين كثير من شباب الأمة عن جبل الهمة العالية ؟ لماذا خارت الهمم ؟ وارتخت العزائم ؟ وتأخرت المشاريع ؟ ولم نعد نرى إنجازاتكم السابقة معاشر الشباب ؟ يؤرق من يحبكم اندفاعكم نحو القدوات الساقطة , وتأثركم بالبيئات السيئة ؟ وقد أعزكم الله بخير قدوة مشت على الأرض , وبخير أمة أخرجت للناس , فأين أنتم ؟

(كم من جبل غادرناه)

كم جاءنا نداء من ربنا أن " اثبتوا " و "اصبروا وصابروا ورابطوا" وكم قال لنا جل وعلا " أرضيتم بالحياة الدنيا " وقال " فما متاع الحياة الدنيا إلا قليل " وقال " وللآخرة خير وأبقى"
(كم من جبل غادرناه)
وميدان تركناه , ومحضن فرطنا فيه , ومنبر تأخرنا عنه , كنا عن طريقها نستطيع أن ندعو إلى الله من خلالها , ونسوق الناس إلى جادة الحق

ولكي لا أدخل في دائرة ( فهو أهلكهم ) , ففي الأمة خير كثير , وهناك من أفرادها ممن لزموا الجبل الذي يشعرون بأنهم مسؤولون عن البقاء فيه , وهم يقدمون الشيء الكبير تقربا ًلله وابتغاء فيما عنده وأسأل الله لهم العون والتسديد .

 

حسين الحسنية
  • مقالات
  • كتب
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية