اطبع هذه الصفحة


دفاعا عن البخاري (1)

محمد حسن يوسف
باحث دكتوراه في الإدارة العامة


هل يمكن لأي فرد أن يتكلم بلا علم؟ الجواب نعم، فقد أصبحنا في زمن يتكلم فيه التافه عن أمور الناس. ومن ذلك ما كتبه أحد الكتّاب يوم الجمعة 17/4/2015 في جريدة الأهرام المصرية عن صحيح البخاري بتحيز وعدم إنصاف.
هل يمكن لأي فرد أن يفهم ما هو الخطأ من الصواب؟ للأسف لا، لأن آفة هذا العصر هي الجهل. فمعظم من يكتبون في هذه الأيام لا يستقون كتاباتهم من مراجع موثوقة، مثل الكاتب الذي كتب المقال المشار إليه، والذي لا ندري ما هي المراجع التي أخذ منها معلوماته.

والمشكلة تكمن في أن معظم من يتصدون للكتابة في الدين يمتازون بلقب "الجاهل المركب". والفرق بين الجهل البسيط والجهل المركب أن صاحب الجهل البسيط يعلم أنه جاهل، ولا يزعم أو يظن لنفسه أنه عالم. بخلاف صاحب الجهل المركب، الذي يكون مع جهله ظانا بأنه عالم، فجهله مركب من جهلين: الجهل بالشيء، والجهل بأنه جاهل به.

وليت الأمر يقف عند هذا الحد، ولكن للأسف الشديد نجد أن معظم من يقرأون هم أيضا لا يقومون بإعمال عقولهم فيما يقرؤونه، ولا يطالبون الكُتّاب الذين يقرأون لهم بحتمية وضع مصادرهم الذين استقوا منها ما يكتبونه. بل ما يزيد الأمر سوءا، أنهم يقومون بعد ذلك بترديد الجهالات التي يقرؤونها بلا أدنى تدبر أو تفكير، بل وقد يقاتلون من أجل إثبات صحتها.
انتقل بالحديث وجهة أخرى، واسألك: باعتبارك مسلم، هل تعرف ما هي أهم كتب الحديث النبوي؟ للأسف لم ينشغل معظم المسلمين في هذه الأيام بهذه القضايا، باعتبارها من الأمور التي لا يهم أن تشغل تفكيرهم في هذا العصر الحديث! ومن المعلوم أن أهم كتب تم تدوين الحديث النبوي فيها هي الكتب الستة، أو هي: صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن الترمذي وسنن أبو داود وسنن النسائي وسنن ابن ماجه.

هل فكرت في شراء كتاب صحيح البخاري؟ اترك لك هذه الإجابة. ولكني أوصيك بضرورة شراء هذا الكتاب، الذي يعتبره العلماء أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل. وقد استغرق مؤلفه "محمد بن إسماعيل البخاري" نحو ستة عشر عاما في كتابته تقريبا. وانتقى الأحاديث التي أوردها فيه من بين ستمائة ألف حديث جمعها وحفظها. فقال رحمه الله:"صنعت الجامع من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين اللّه". وقال: "لم أُخرّج في الكتاب إلا صحيحا وما تركت من الصحيح أكثر". وكان الإمام البخاري يصلي ركعتي الاستخارة قبل أن يكتب أي حديث في الصحيح، كما كان يصليهما قبل أن يضع أي ترجمة. فقال رحمه الله: "ما وضعت في كتاب الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين".

هل تعرف عدد الأحاديث النبوية في كتاب صحيح البخاري؟ يحتوي الكتاب على عدد 7593 حديثا نبويا وفقا لترقيم محمد فؤاد عبد الباقي لأحاديث البخاري. ويرى الحافظ ابن حجر العسقلاني أن عدد أحاديث صحيح البخاري هي 7397 حديثا.
هل تعلم ما الذي دفع البخاري لتصنيف كتابه؟ ذكر المؤرخون أن دافع البخاري لتصنيف كتابه هو رؤيا رآها للنبي صلى الله عليه وسلم، كأنه واقف بين يديه وبيده مروحة يذب (يدافع) بها عن النبي صلى الله عليه وسلم. فسأل أحد المعبرين عن ذلك، فقال" إنك تذب (تدفع) الكذب عنه. فهذا الذي حمله على كتابة صحيحه. وهناك سبب آخر وراء كتابة البخاري لصحيحه، وهو أن أحد شيوخه كان يتمنى من تلاميذه لو تصدى أحدهم لجمع كتاب مختصر لصحيح سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع هذا الطلب في قلب البخاري، فتصدى لجمع صحيحه.

هل تعلم مدى تمكن البخاري من حفظ الحديث وإتقانه لروايته؟ سأورد لك هنا قصة ليس لها مثال تدلل على ذلك. فقد روى أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ: سمعت عدة مشايخ، يحكون:
(أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا، وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوا إلى عشرة أنفس، إلى كل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس يلقون ذلك على البخاري،وأخذوا الموعد للمجلس.

فحضر المجلس جماعة أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان، وغيرها، ومن البغداديين، فلما اطمأن المجلس بأهله، انتدب إليه رجل من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن الآخر، فقال: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد، حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه.

فكان الفهماء، ممن حضر المجلس، يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون: الرجل فهم! ومن كان منهم غير ذلك، يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم.

ثم انتدب رجل آخر من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليه واحدا بعد آخر، حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه.

ثم انتدب إليه الثالث والرابع، إلى تمام العشرة، حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة، والبخاري لا يزيدهم على: لا أعرفه.

فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا، التفت إلى الأول منهم، فقال: أما حديثك الأول فهو كذا، وحديثك الثاني فهو كذا، والثالث والرابع على الولاء، حتى أتى على تمام العشرة. فرد كل متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه. وفعل بالآخرين مثل ذلك، ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها، وأسانيدها إلى متونها. فأقر له الناس بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل).

وهكذا فلم يكن إعجازه هو حفظه جميع الأسانيد والمتون التي أُلقيت عليه، بل حفظه كذلك ترتيب الأحاديث المقلوبة التي ألقاها عليه الرجال العشرة والرد عليها بنفس الترتيب!! ثم يأتي اليوم بعض الذين لا يعلمون ويتقولون على الرجل بما ليس فيه ويطعنون في كتابه العظيم ... فإلى الله المشتكى!!!

(18 ابريل 2015م – الموافق 29 جمادى الآخر 1436هـ)

دفاعا عن البخاري (2)
 

محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية