صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







حجاب الاعتياد ودرء الافتنان في الطلب

السعيد صبحي العيسوي
@esawi_said

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
ففي إحدى السجالات العلمية القديمة، وقد هُديت حينها إلى حشد أدلة مجملة على أن (تعلُّم السَّلف) كان على سُنَّة وطريقة متبعة، وأنها جادة مسلوكة، وأن من بحث عنها وجدها في "كتب التراجم" وكتب منهجية العلم كـ "جامع ابن عبدالبر" و "كتب الخطيب البغدادي" و "ابن جماعة" وغيرهم، كان من جليسي حينها أن نضح في وجهي ما خامر قلبَه وفكرَه وهو أنه (هكذا تعلمنا) و(هكذا تخرّج مشايخنا) و(ما من سبيل إلا هذا)!!.
فكان هذا الكلام كفيلاً بتحريك كثيرٍ من الهواجس وبعضٍ من القلق؛ لتسلسل تلك الفرضيات الموهومة، وكشفها عن حجاب خطير يتسلسل في الأجيال الناشئة هو: حجاب (الاعـتـيـاد)، وكيف أنه قد وقف حاجزاً أمام حركة العقل العلمي وتنشيط الذهنية العلمية ومحركات (الافتنان في التعلم)؛ افتنان وسائل لا افتنان في مادة الطلب.
لم يكن الطالب ليظن يوماً أن تعلم شيخه وتعليمه قد يكون (ضربة حظ) هُدي إليها لا منهجاً مدروساً استهداه في كتب العلم ومنهجيات الطلب.
هذا الواقع عايشتُه ورأيتُه، فعواصف الأحداث غيَّرت بعض مناهج الطلب، وأوليات البدايات لدى بعض من عُني برسم المناهج للطلاب، وهكذا كان حال بعض من عاصرناهم من المنتسبين إلى العلم، حتى رأينا من يخلط في تنشئة الطلاب بين كتب التخريج والتأصيل وكتب التخصص، وكتب الإثراء المعرفي. حتى إن بعضهم كان يعلم الطالب أول طلبه أن يجلس لشرح البخاري سنوات، وكذا التفسير، اعتماداً على أن العلم هو الكتاب والسنة، وأنه بهذا سيكون طالباً مجتهداً ومجداً في العلم، ولا تسأل عن حظ الفقه، والاعتقاد، وعلوم الآلة، فهذه فلسفات، والعلم الذي يقذفه المعلم يأتي من النبع مباشرة. وبعضهم ظل جاهداً لساعات يحاور ويجادل لأن يجعل مدارج التعلم وسلم الطلب متفرعاً عن القرآن الكريم، فيحفظ الطالب أول ما يبدأ بالقرآن، ثم يظل عمره في القرآن تفسيراً واستنباطاً وأخذاً للأحكام..
وغيرها كثير، كل يحكي عما عايشه واستقر في ذهنه.
فهل التعلم فعلاً يكون بهذه الطريقة؟!
أم هي افتراضات وظنون!!
والمطَّلع على سِجالات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مع المتكلمين، يرى أنه كان يلمح أحياناً إلى أن شغلهم بما قدَّروه وافترضوه كان هو نفسُه شُغلاً لهم عما هو في الواقع الشرعي لأدلة الوحي، يقول مثلاً: (وهؤلاء وأمثالهم لا يتكلمون في الأدلة الشرعية الواقعة، وهي الأدلة التي جعلها الله ورسوله أدلة على الأحكام الشرعية، بل يتكلمون في أمور يقدرونها في أذهانهم أنها إذا وقعت هل يستدل بها أم لا يستدل، والكلام في ذلك لا فائدة فيه، ولهذا لا يمكنهم أن ينتفعوا بما يقدرونه). [الفتاوى الكبرى (5/ 138)].

أما قضيتنا وهي حجاب الاعتياد وأثره في درء الافتنان في التعلم؛ فإنا نجد من إخواننا مَنْ يرسم صورةً للعلم في ذهنه هي غير الصورة الحقيقية، بل ويختطُّ طرقاً للتعلم هي غير طريق، لكنه يتخيله طريقاً، للإلف والتعود وأنه سلكها (فقط)، أو أن شيخه قد سلكها فأثمرت فيه؛ ولا شك أن إثمارها في واحدٍ لا يعني أنها صحيحة فقد يقدر الله تعالى أموراً أخرى تثبته على صراط العلم وتقيم فهمه لصدق نيته والحاجة إليه لا لسداد منهجيته العلمية.
وقد قال لي غير واحد ممن تخرجتُ عليهم: (تعلمنا بطريقة خاطئة، لعدم اتضاح الصورة حينها، وقلة المتمكّن الناصح).
وراسلني أحد مشايخي يوماً بعدما نشرت كتابي (مدارج التعلم بين التأصيل واستكمال التكوين)، قائلاً: (أنا أحد هؤلاء، ويعلم ما أحدثَتْهُ في جيله وما أحدثَتْهُ فيمن تخرَّج عليها وما زال، لقد تركتهم، وعدت، فوجدت أن الأمر في الأتباع أصعب للخلاص من ذلك).

***

فلا عذر لك أيها الأريب، واربأ بنفسك فإن العمر قصير!
والآن بعد اتضاح الصورة لدى كثير من المعلمين والمشايخ وتنبيه كثير من العلماء على (منهجية الطلب)، لا عذر لك في الشتات بحجة كون شيخك خرّجك عليها أو أنك اعتدت عليها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكم من الناس من يرد ما يعلم بالدلائل السمعية والعقلية، ويقبله إذا رأى مناماً يدل على ثبوته، أو قاله من يحسن به الظن؛ لثقة نفسه بهذا أكثر من هذا، وكم ممن يرد نصوص الكتاب والسنة حتى يقول ما يوافقها شيخه أو إمامه، فيقبلها حينئذٍ لكون نفسه اعتادت قبول ما يقوله ذلك المعظم عنده، ولم يعتد تلقي العلم من الكتاب والسنة) [درء تعارض العقل والنقل (4 /143)].
وانظر إلى هذا النص النفيس للإمام الحافظ ابن رجب رحمه الله: (ومَنْ سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه تمكَّن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالباً؛ لأنَّ أصولها توجد في تلك الأصول المشار إليها، ولابدَّ أن يكون سلوك هذا الطريق خلف أئمة أهله المجمع على هدايتهم ودرايتهم, كالشَّافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ومَن سلك مسلكهم؛ فإنَّ مَن ادَّعى سلوك هذا الطريق على غير طريقهم وقع في مفاوز ومهالك, وأخذ بما لا يجوز الأخذ به, وترك ما يجب العمل به) [جامع العلوم والحكم (1/ 249- 250)].

وإذا تقرَّر هذا فلا انفكاك لمن أراد فهم العلم والنبوغ فيه عن ترك حجاب الاعتياد لبلوغ الافتنان في العلم والطلب.

***

فاستعن بالله وتدارك... واستفد من سنيّ عمرك التي أمضيتها بعشوائية وشتات، وسِرْ على منهج وطريقة، تبتدئ فيها بقاعدة تأصيلية في العلوم، ثم ارجع إليها مرة أخرى مُستكملاً ما فاتك، متداركاً ما قد غمض بالإجمال والاختصار، ثم تخصص في أحدها، وربك كريم، وعنده خزائن السموات والأرض..
وآمل ممن لديه إضافة، أو من لديه تجربة في هذا أن يراسلني بها، لعل الله تعالى أن ينفع بها.


***

هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه..

تم تحريره
25/ شوال/ 1439
مكة المكرمة

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
السعيد العيسوي
  • قولٌ في العلم وطلابه
  • الأبحاث العلمية
  • التعريف بالكتب المطبوعة
  • منتقى التغريدات
  • الصفحة الرئيسية