صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







تصانيفُ العلماء ومراجل الخلاف

السعيد صبحي العيسوي
@esawi_said

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد؛

لعلَّ الناظر في مدونة كبار العلماء والمصنفين من السلف يجد حظاً كبيراً من تصانيفهم تنحو إلى نجاء الطالب من أتون الخلاف الجدلي، وشَرَك السفسطة، إلى وادٍ سهل، كثيرة رياضُه ومرابعُه؛ ليطَّلع الطالب على زبدة الفكر دون تشقيق وتفاريع لا تفيد في ملكة الفن ومهاراته، وليسوا كما ترى في بعض المتأخرين ممن يطيل التفريع بغية إقناع المطلع بآلة الكاتب لا رجاحة المكتوب، وبصفاء أفكاره وأطروحاته لا بصفوة العلوم.
فكان ديدنهم هو حماية الطالب من الولوج في أتون الخلاف بإيقاظ الفكر ونقل العلم الصافي بأسهل عبارة وأخصرها، فلا تجد فيها تنطع المتأخر، ولا مسبار مترقب لطوالع نجمه وأفوله.
وشتان بين من جعل مصنِّفه سفينة نجاة، ومن جعله حبالة للعلوق في شَرَك الخلاف!!

والعلم يا صاحبي: ما أخرج من الخلاف لا ما أدخلك فيه.


وهاك نصاً للربيع المرادي رحمه الله يكشف عن حقيقة القوم ونظرتهم للتصنيف، يقول:
(لو رأيتَ الشافعي وحُسنَ بيانه وفصاحته لتعجبت منه، ولو أنَّه ألَّف هذه الكتب على عربيته التي كان يتكلمُ بها، لم يُقْدَر على قراءة كتبه)[1].
 

***

ومن شواهده المتكاثرة: أن العالم قد يقتصر على ذكر بعض ما بحثه، فلا يذكر جميع ما أداه إليه فحصُه ونظرُه، بينما المعجب يرى نفسه محيطاً بالأقوال ومآخذها؛ فيضمر زهواً، وللعالِم تنقصاً.
لكنه لو نظر في مسلك هذا المصنِّف لوجد أنه من كمال آلته ونظره أنه يُطْلِع الطالب على ما يفيد, لا ما بحثه؛ ليجنبه مصارع الاختلاف، وهذا التصرف معهود ومطروق ووارد.
فقد يذكر ما يراه راجحاً أو نافعاً للطلاب، ولا يعد ضعفاً ولا خيانة، على حدِّ قول بعض المزهوين بما حصلوا من آلة البحث وموسوعاته الإلكترونية.


***


والعالِم ربما لم ينشط وقت التصنيف ليأتي على جميع الأقوال، وربما أكتفى بتقريرها في موضع آخر من مباحثاته.
ولعل هذا - والله أعلم - ما دفع أبا موسى المديني رحمه الله لبيانه في مقدمة كتابه في غريب القرآن والحديث، ليقول:
(وفي أمالي ومصنفاتي أشياء شرحتها, لم أنقُلها إلى هذا الكتاب كسلاً، واتِّكالا على ذكرهِ مرَّةً)[2].

وقد أشار كثيرون في سياق تقرير منهجية السلف في الكتابة أنهم لا يذكرون كل علومهم، بل ما كانوا يذكرون إلا القليل المنتخل.
وممن أشار إلى ذلك ابن المقفع الأديب، إذ قال: (غير أن الذي نجد في كتبهم هو المُنتَخل من آرائهم، والمنتقى من أحاديثهم)[3].
فلا يظن ظانٌّ أن عقلَ العالم كتابُه المصنَّف أو رسالتُه التي ألَّفها، وإلا كان جوراً وظلماً لعباد الله.


***

ومن شواهد ذلك أيضاً أنَّ الإنسان قد يكون وافرَ الحجة البيانية الخطابية اللسانية، وفي الوقت نفسه يكون ضامرَها كتابة وقرطاساً.
وأنت ترى من طلاب العلم - بل ومن العلماء - من هو وافر العلم حجةً وبرهاناً وكمالاً في آلة النظر والتعبير في المجالس، لكنه إذا خلص إلى قرطاسه إذا بالقلم يتثاقل ويتوه في مسالك الفكر وتشييد المباني، فما يكون من الفؤاد حينها إلا أن يأخذ جولته في مرابع القوم ويطرح عن نفسه عناء الكتابة؛ لقد لقي من هذا نصباً.

***
 

وقد حدثني أحدهم يوماً - وقد شكى إليَّ عناء الكتابة والبحث - أنه إذا ألزم نفسه في يوم بكتابة ورقات في بحثه، ظلَّ بعدها يومين عليلاً كليلاً.
فلا يأتين طالب معجب بـ (موسوعاته البحثية) أو ما حباه الله من آلة بحث وتعبير، ليفخر بها ويدعي الاستقراء والتتبع! وكأنه قد فاق السلف في البحث والتقرير!.

عود على بدء:

مصنفات الكبار من أهل العلم تنحو أحياناً إلى اختصار وطي الخلاف، لضمان سلامة وصول المطَّلع إلى برِّ النجاة، وأن ذلك لا يعني عياً، أو نقصاً في آلتهم العلمية والبحثية، كما أن التعاظم والغرور بأوهام الاستقراء لا يكون إلا من ناقص الفكر، لم يفهم حقيقة أبجديات الأدب والطلب.
هذا، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.


تم تقييده يوم 22/ 11/ 1438هـ


-------------------------------------------
[1] مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 49).
[2] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (1/ 5).
[3] الأدب الكبير والأدب الصغير، ص 14.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
السعيد العيسوي
  • قولٌ في العلم وطلابه
  • الأبحاث العلمية
  • التعريف بالكتب المطبوعة
  • منتقى التغريدات
  • الصفحة الرئيسية