صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







يا نفس توبي : ما هي التوبة؟

أنور إبراهيم النبراوي
@AnwarAlnabrawi


إن التوبة هي الاعتراف بالذنب، كما عرّفها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لعائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك: "فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً، فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ ثُمَّ تَابَ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ"([1]).

وقد تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم، وجاء على لسان المرسلين، فهذا آدم عليه السلام يقول لربه معترفًا بذنبه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعرَاف: 23].

وكذلك جاء عن موسى عليه السلام حين قتل القبطي ولم يكن يقصد، فما كان منه إلا أن استرجع وندم على فعلته، واعترف بظلمه لنفسه أن حمّلها الوزر، فتوجه إلى ربه بقلب مرهف، وضمير يقظ، طالبًا مغفرته وعفوه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}[القَصَص: 16].

فاستجاب الله إلى ضراعته، وإحساسه بأهمية الرجوع والاستغفار: {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[القَصَص: 16].

وهذا يونس عليه السلام بقوله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ *}[الأنبيَاء: 87].

وكان من دعاء الحبيب صلى الله عليه وسلم الذي علَّمه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: "قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ"([2]) .

وهذه النصوص وغيرها تؤكد: أهمية الاعتراف بالذنب الذي هو حقيقة التوبة، وأنه سبب أكيد لحصول الرحمة؛ والمغفرة من الله.
فإن المعترف بالذنب يدرك خطأه، ويعرف زلته، ويندم على فعلته، لذلك يطلب العون من ربه والمغفرة لذنبه.
إنه يتوب ويتوب، ويشعر بالضعف، فيستعين بربه، ويطلب رحمته؛ لأنه يعلم علم يقين بأنه لا حول له ولا قوة إلا بعون الله ورحمته وإلا كان من الخاسرين؟!.
قال العز بن عبدالسلام رحمه الله: "الاعتراف بالذنوب استكانة لعلام الغيوب، موجبة لعطفه ولطفه، بغفر الذنوب، وستر العيوب".
إن التوبة هي ترك الذنب على أجملِ وأبلغ وجوه الاعتذار، وهي من كمال الإيمان، وحسن الإسلام، ترقى بالعبد إلى مقامات المتقين، وتحول بينه وبين سبل الشيطان.
إن التوبة تعني الرجوع إلى الله بحل عقدة الإصرار عن القلب، والقيام بحقوق الرب، وتدارك ما أمكن.
إن التوبة تعني الرجوع عمّا يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا إلى ما يحبه الله ظاهرًا وباطنًا، والرجوع عن معصية الله إلى طاعته.
قال الله تبارك وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النُّور: 31]. أي: عودوا إلى طاعته، وأنيبوا إليه، فالمؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة التي هي سبيل الفلاح.
قال ابن القيم رحمه الله: "التوبة هي رجوع العبد إلى الله ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين"[3]، وقال الجرجاني رحمه الله: "والتوبة في الشرع، الرجوع عن الأفعال المذمومة إلى الممدوحة"[4].

وفي التوبة إقلاع عن السيئات، وندم على المعاصي، كما قال صلى الله عليه وسلم: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ»([5])، حيث إن الندم يقود المرء إلى تذكر الذنب دائمًا، ومن ثم يتحقق له الخوف من الله، فيكون ذلك بالنسبة له بابًا إلى مرضاة ربه تعالى.
يقول الحسن البصري رحمه الله: «إِنَّ الرَّجُلَ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَمَا يَنْسَاهُ وَمَا يَزَالُ مُتَخَوِّفًا مِنْهُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ»([6]).
والمقصود هو الندم على معصية الله مع العزم الأكيد على عدم العودة إلى الخطايا والآثام.

يا عين فلتبكي ولتذرفي الدمعا  ---  ذنبًا أحاط القلب أصغي له سمعًا
أين الدموع على الخدين قد سالت  ---  فالنفس للعصيان يا ربي قد مالت

وكتب الحسن البصري رحمه الله إلى عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: "اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به، والندم على الشر يدعو إلى تركه"[7].
والتوبة واجبة على الفور من كل ذنب. فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بالعباد، فلابد أن يقلع العبد عن المعصية، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم على ألا يعود إليها أبدًا، وإلا لم تصح توبته.
أما إذا كان الذنب يتعلق بالعباد.. فلا بد للتائب أن يرد المظالم إلى أهلها، ويبرأ منها.. هذا إذا لم يترتب على ذلك مفسدة أعظم.
وأعظم التوبة وأوجبها:
التوبة من الكفر إلى الإيمان، والتوبة من البدعة إلى السنة، ثم يليها التوبة من كبائر الذنوب، ثم يلي ذلك التوبة من صغائر الذنوب.. ثم التوبة من التقصير في جنب الله وأوامره، والتوبة من الغفلة ومن تأخير التوبة والتسويف بها.
كما أن المسلم الجاد والمؤمن القوي الحريص على بركة عمره يعد إهدار الوقت في المباحات والمبالغة فيها معصية يجب التوبة منها:

يا ثقتي يا أملي  ---  أنت الرجا أنت الولي
اختم بخير عملي   ---  وحقق التوبة لي
قبل حلول أجلي  ---  وكن لي يا رب ولي

***
 

أنور إبراهيم النبراوي
باحث في الدراسات القرآنية والتربوية
ومستشار أسري
Twitter: @AnwarAlnabrawi
E-mail: Aidn1224@gmail.com


----------------------------------------
([1])  أخرجه البخاري (4141)، ومسلم (2770).
([2]) أخرجه البخاري (834).
[3] مدارج السالكين (1/ 197).
[4] التعريفات (ص: 70).
([5])  أخرجه أحمد (3568)، وابن ماجه (4252)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6802) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
([6])أخرجه أحمد في الزهد (1581) .
[7] إحياء علوم الدين (4/ 425).

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
أنور النبراوي
  • مقالات
  • كتب
  • تغريدات
  • الصفحة الرئيسية