فوائد من تفسير
سورة آل عمران |
فهد بن عبد الله الجريوي |
فوائد من المجلد الأول :
1 ـ قال
تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا
نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) فـ ( أنا ) هنا ضمير . فعلى
هذا نقول : ( أنا ) و ( هو ) في قوله : ( لا
إله إلا أنا ) وقوله : ( لا إله إلا هو
) كلاهما ضمير رفع منفصل . فكما أن الذاكر لا يجعل ( أنا ) اسماً
لله ، فلا يجوز أن يجعل ( هو ) اسماً لله ، وبهذا نعرف بطلان ذكر الصوفية
الذين يذكرون الله بلفظ : هو هو . ويرون أن هذا الذكر أفضل الأذكار ، وهو
ذكر باطل . ص7 . 2 ـ قال تعالى : ( والله عزيز ذو انتقام ) عزيز : أي : ذو العزة ، وهي ثلاثة أصناف : أ . عزة القدر ب . عزة القهر ج. عزة الامتناع . عزة القدر : بمعنى أن الله ذو قدر شريف عظيم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( السيد الله ) هذه عزة القدر . عزة القهر : بمعنى أنه القاهر لكل شيء ، لا يُغلب ، بل هو الغالب . قال تعالى : (وهو القاهر فوق عباده ) . عزة الامتناع : أي : أنه عز وجل يمتنع أن يناله سوء أو نقص ، ومن هذا المعنى قولهم : هذه أرض عزاز ، أي : صلبة قوية لا تؤثر فيها المعاول . ص15 ـ 16 .
3 ـ قال تعالى : ( والله عزيز ذو انتقام ) هنا قال : ( ذو انتقام ) ولم يقل ( ذو الانتقام ) . وفي الرحمة قال : ( وربك الغفور ذو الرحمة ) ولم يقل : ( ذو رحمة) وإن كان قد قال في آية أخرى : ( وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ) لأن الانتقام ليس من أوصاف الله المطلقة ، وليس من أسماء الله المنتقم . فـ (المنتقم) لا يوصف الله به إلا مقيداً ؛ فيقال : المنتقم من المجرمين ، كما قال تعالى : ( إنا من المجرمين منتقمون ) أما ( ذو انتقام ) فهي لا تعطي معنى الانتقام المطلق ؛ لأن ( انتقام ) نكرة ، فلا تعطي المعنى على الإطلاق ، بل له انتقام مقيد بالمجرمين ونحوهم . وبهذا نعرف أن الأسماء المسرودة في الحديث الذي رواه الترمذي لا تصح عن النبي ، لأنها ذُكر فيها من أسماء الله المنتقم ، وهذا لا يصح ، وحُذِف من أسماء الله ما ثبت به الأحاديث فلم يُذكر فيها مثل : الشافي ، والرب . ص16 .
4 ـ القلب هو هذا الجزء المستقر في الصدر ، لقول الله تعالى : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) وبهذا القلب يكون العقل ؛ لقوله تعالى : ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ) ، وبناء على هذه الأدلة يتبين أن العقل في القلب وليس في الدماغ .. والعلماء اختلفوا قديماً وحديثاً ، هل العقل في الدماغ أو العقل في القلب ؟ والذي دل عليه القرآن أنه في القلب ، والقرآن كلام الخالق ، والخالق أعلم بما خلق . فالعقل بالقلب لكن عقل القلب هو عقل التصرف والتدبير ، ليس عقل الإدراك والتصور ، فإن عقل الإدراك والتصور يكون في المخ . فالمخ يتصور ويعقل ، وهو بمنزلة المترجم للقلب يشرح ما يريد رفعه إلى القلب ، ثم يرفعه إلى القلب ، ثم يصدر القلب الأوامر ، والذي يبلغ الأوامر الدماغ . ولهذا تنشط العضلات كلها بنشاط الدماغ ، فصارت المسألة سلسلة ، والذي يتصور ويدرك وفيه عقل الإدراك هو الدماغ ، وأما عقل التصرف والتدبير والرشاد والفساد فهو عقل القلب . وحينئذ يزول الإشكال ، و تجتمع الأدلة الحسية والشرعية ، فالعقل الإدراكي محله هو الدماغ ، والعقل التصرفي الإرشادي الذي به الرشاد والفساد هو القلب . ص51 .
5 ـ الإنسان مهما بلغ من الصدق فإن عرضه الأمثال الواقعة تجعل كلامه حق اليقين . والمراتب ثلاثة : علم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين . علم اليقين : هو خبره الصادق . عين اليقين : ما تراه بعينك مشاهداً . حق اليقين : ما تدركه بحسك . فإذا قال لك قائل : في جيبي تفاحة ، وهو رجل صادق ، فالذي أدركت من وجود التفاحة علم اليقين ، فإذا أخرجها ونظرت إليها فهذا عين اليقين ، فإذا أكلتها فهو حق اليقين ، لأن هذا هو الواقع . ص82 .
6 ـ هنا ننبه أن كثيراً من الكُتّاب اليوم إذا تكلموا عن اليهودية والنصرانية والإسلام ، يقولون : هذه الأديان السماوية . فيظن السامع أن دين اليهود قائم ، وأن دين النصارى قائم ، كقيام دين الإسلام . وهذا لا يصح ، فإن هذه الأديان أديان سماوية بلا شك ، لكنها حرفت ، وبدلت ، وغيرت ونسخت ببعثة محمد فليست ديناً يرتضيه الله اليوم ، بل المتمسكون بها كفار ، لا يعدون من المسلمين . ص124 .
7 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ) المسكين : كل من لا يكتسب ، حتى ولو كان من أولادك ؛ فلو أنت غني ، وولدك لا يكتسب فهو مسكين ، فأنت إذا سعيت عليه كالمجاهد في سبيل الله ، قال : وأحسبه قال : ( كالصائم لا يفطر ، وكالقائم لا يفتر ) . ص166 .
8 ـ الإنسان الذي هداه الله للإسلام ليس أحد من الناس مثله في النعمة إلا من أنعم عليه بها . فأنت في الحقيقة تحب الله نفسه لذاته ولما أنعم عليك به من النعم ، وليست محبة الله كمحبة الزوجة أو كمحبة الطعام ، أو كمحبة الشراب ، أو كمحبة اللباس ، أو كمحبة السكن ، أو كمحبة السيارة ؛ كلا فإن محبة الله لا يشبهها شيء ، وجرب تجد ، اجعل قلبك صافياً يوماً من الدهر وصلّ وكن متصلاً بالله في صلاتك تجد شيئاً لا يخطر بالبال ، وتجد شيئاً يبقى أثره مدة طويلة وأنت تتذكر تلك اللحظة التي كنت فيها متصلاً بربك . ص195 .
9 ـ قال تعالى في شأن مريم عليها السلام : ( فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) .. تأمل أنه قال : من القانتين ، ولم يقل : من القانتات ؛ لأنه كما جاء في الحديث : (كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا قليل) ص221 .
10 ـ المحراب مفعال من الحرب ، وهو مكان العبادة ، وليس المحراب هو طاق القبلة كما هو عند الناس ، ورأيت في بعض المساجد مكتوب على طاق القبلة على القوس ( كلما دخل عليها زكريا المحراب ) يجعلون الإمام مريم وهم لا يشعرون ، ويخطئون أيضاً في المعنى ؛ لأن المحراب مكان العبادة سواء كان طاقاً أو مربعاً أو حجرة ، ولهذا قال الله تعالى في قصة داود : ( إذ تسوروا المحراب) وسمّي بذلك لأن المتعبد فيه يحارب الشيطان . ص223 .
11 ـ قال تعالى : ( فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) . يستفاد من هذه الآية تسمية المولود حين يولد ؛ لقولها : ( وإني سميتها مريم ) وهذا هو السنة ، أن يسمى الإنسان حين يولد إلا إذا لم يتهيأ الاسم فإنه يسمى في اليوم السابع ، وبهذا تجتمع الأدلة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ولد إبراهيم قال : ( ولد لي الليلة ولد وسميته إبراهيم ) . وفي حديث العقيقة قال : ( تذبح يوم سابعه ، ويحلق ويسمى ) فيكون الجمع أن من كان مهيأ الاسم قبل الولادة فالأفضل أن يسميه حال الولادة ، ومن لم يهيأ فالأفضل أن يؤجله إلى اليوم السابع . ص229
12 ـ قال تعالى : ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين ) . ( حصوراً ) فعول بمعنى فاعل أي حاصراً نفسه عن أراذل الأخلاق ، فيكون هذا المبشر به موصوفاً بصفات الكمال الدال عليها قوله : ( سيداً ) ومبرأً من النقص وسوء الأخلاق الدال عليه قوله : ( حصوراً ) فيكون جمع له بين النفي والإثبات ، وذلك لأن الإنسان لا يكمل إلا بوجود صفات الكمال وانتفاء صفات النقص ، وهو أمر نسبي . وأما من قال من المفسرين : إن الحصور هو الممنوع عن إتيان النساء يعني لا يستطيع على النساء ؛ فإن في هذا نظراً واضحاً ؛ لأن عدم قدرة الإنسان على النساء ليس كمالاً إذ أن ذلك ليس منه بتخلق ولكنه عيب .وفيها قول آخر : أنه لا يأتي من النساء من لا تحل له فيكون وصفاً له بكمال العفة ، وهذا يمدح عليه الإنسان . لكن ما قلناه أشمل من هذا القول . ومعلوم أنه إذا وجد معنى أشمل فهو مقدم على المعنى الأقل ؛ لأن الأقل داخل في الأشمل لا العكس .ص235 .
13 ـ قال تعالى : ( هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ) . في هذه الآية دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يسأل مطلق الذرية ؛ لأن الذرية قد يكونون نكداً وفتنة ، وإنما يسأل الذرية الطيبة . ص238 .
14 ـ قال تعالى : ( وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين * يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) . في الآية بيان أنه كلما منّ الله على إنسان بشيء كانت مطالبته بالعبادة أكثر ؛ لأن الملائكة لما قالت : ( إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) ، أمرتها بالقنوت والسجود والركوع ، فدل هذا على أنه ينبغي للإنسان كلما ازدادت عليه نعم الله أن يزداد على ذلك شكراً بالقنوت لله والركوع والسجود وسائر العبادات . ص260 .
15 ـ قال تعالى في شأن زكريا عليه السلام وابنه يحيى : ( قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء ) وقال تعالى في شأن مريم وابنها عيسى : ( قالت رب أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء ) . عبر في قصة مريم بالخلق وفي قصة زكريا بالفعل ( يفعل ) ، فهل هناك نكتة أو أنه اختلاف تعبير ؟.. الجواب : أن هناك نكتة ، وهي من وجهين :الوجه الأول : مما قاله العلماء وهو صحيح أن عيسى عليه الصلاة والسلام خلق من غير ما جرت العادة به ، خلق على وجه لم تجر العادة بمثله إطلاقاً ، فناسب التعبير بالخلق الدال على الإبداع ، ولهذا يقال : خلق الله السماوات ، ولا يقال : فعل الله السماوات ، مع أن الخلق فعله لكن الخلق فيه نوع من الإبداع ولذلك قال : ( خلق ) . الوجه الثاني : الرد على شبه النصارى الذين يقولون : إن عيسى هو الله ، والله ثالث ثلاثة ، فيكون فيه التصريح بأنه مخلوق ، ويكون هذا قطعاً لدابر قولهم فيه ، إذن نكتة كونية ونكتة شرعية يعني حكمة كونية شرعية . ص280 .
16 ـ قال تعالى في بيان معجزات عيسى عليه السلام : ( وإذ تخرج الموتى بإذني) في هذه الآية إشكال ، وهو أن الله تعالى قال لعبدالله بن حرام (( بعد أن استشهد وطلب الرجوع للدنيا )) : ( إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون ) ، وهنا ذكر أنه أحيا الموتى لعيسى في الدنيا ، الظاهر والله أعلم أن يقال : إن عبد الله بن حرام طلب الرجوع من أجل العمل ، وأما ما وقع آية لعيسى فليسوا يرجعون على أنهم يعملون ، على أن المسألة فيها أيضاً نظر من جهة أخرى ؛ لأن الله تعالى لما أخذت الصاعقة أصحاب موسى الذين كانوا معه دعا الله عز وجل فبعثهم من بعد موتهم وبقوا وعملوا . فيكون المراد ـ والله أعلم ـ أنه إذا لم يكن هناك سبب مثل أن تكون آية فهذا لا مانع ، أما عبدالله بن حرام فليس هناك سبب . ص289 .
17 ـ قال تعالى : ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) آيات عظيمة ، فآياته كثيرة كل آية فيها عدة آيات ، ولكن لا يفهم هذه الآيات إلا من فتح الله له قلبه بالإيمان والعمل ، واعتقد أن هذا القرآن كلام الله وأن فيه آيات بينات ، أما الذي تمر عليه مثل هذه الجملة من الآيات مر الكرام ، ولا يتحرك بها قلبه ، ولا يتأمل هذه الآيات ؛ فإنه لا ينتفع بما في القرآن من الآيات ، لابد أن تؤمن بأن فيه آيات وأن تحاول استخراج هذه الآيات بالتدبر ، والإنسان إذا تدبر القرآن وجد فيه آيات عظيمة لا يحصيها البشر . ص349 .
18 ـ قال تعالى : ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ) البشر هو الإنسان من بني آدم ، وسمي بشراً لظهور بشرته . فإن بشرة الإنسان ظاهرة بارزة ليس عليها شعر ولا صوف ولا وبر ولا ريش ولا زعانف بادية . وقيل : سمي بشراً لظهور أثر البشارة عليه فيما إذا أخبر بما يسره ، ولا مانع من أن يكون سمي بشراً لهذا ولهذا ، والحكمة من أن الله جعل الآدمي بارز البشرة ليعلم الآدمي أنه مفتقر إلى اللباس الحسي ، فينتقل من ذلك إلى العلم بأنه مفتقر إلى اللباس المعنوي وهو التقوى . وأنه بحاجة إلى أن يعمل الأسباب التي تستره معنى كما هو يعمل الأسباب التي تستره حساً . ص450 ـ 451 .
19 ـ قال تعالى : ( قل ءامنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) . الخطاب في هذه الآية للنبي . والخطاب للنبي خطاب له وللأمة ، ما لم يقم دليل على أنه خاص به . والمتأمل في الخطاب الموجه للنبي يتبين له أنه على ثلاثة أقسام : قسم دل الدليل على أنه خاص به فهو له ، يختص به ، مثل قوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا ) ، وقوله : ( ألم نشرح لك صدرك ) . وأما ما دل الدليل على العموم ، فهو على العموم ، مثل قوله تعالى : ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة ) . وما سوى ذلك فإنه يكون عاماً له وللأمة ، لكن وجه الخطاب إليه باعتباره الإمام لأمته عليه الصلاة والسلام . والخطاب الموجه للإمام موجه له ولمن كان مؤتماً به . ص482 ـ 483 .
20 ـ اعلم أن شريعتنا في الأحكام بالنسبة لمن سبق على ثلاثة أقسام : القسم الأول : ما وردت شريعتنا بخلافه فهذا لا نعمل به ؛ لأن شريعتنا ناسخة لجميع الأديان ، مثال ذلك : القصاص في النفس والأطراف كان في التوراة واجباً مفروضاً ، ولا عفو ، لكن في الشريعة الإسلامية كان مخيراً فيه ، فنتبع القرآن . القسم الثاني : ما ورد شرعنا بوفاقه فإننا نعمل به اتباعاً لشريعتنا المصدقة لما سبق من الشرائع ، ولا نخالفه ، وهذا كثير ، مثل الطيبات ، أحل الله الطيبات لنا ولغيرنا ، لكن حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بسبب ظلمهم . القسم الثالث : ما لم يرد في شرعنا له وفاق ولا خلاف . هذا محل نزاع بين أهل العلم ، وبحثه موجود في أصول الفقه ، فمن العلماء من قال : إنه شرع لنا ، ومنهم من قال : إنه ليس بشرع ، والصحيح أنه شرع لنا ، لدلالة شرعنا عليه . قال الله تعالى : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) . وقال تعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك ) وقال تعالى : ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ) . وكذلك النبي أحياناً كان يسند الحكم أنه فعله أخي فلان من الأنبياء ، وما أشبه ذلك ، والمعنى يقتضي ذلك أيضاً ، لأنه لولا أن لنا فائدة من قصص الأنبياء السابقين ـ ومن الفوائد أن نعتبر ونعمل بما عملوا ـ لم يكن لذكر هذه القصص من الفائدة كثير . ص491 ـ 492 .
21 ـ إن المؤمن إذا تعارض عنده أمر الله وأمر الخلق قدم أمر الله مهما كان الآمر ، حتى أبوك وأمك لو أمراك بخلاف أمر الله فقدم أمر الله . لو قالت لك أمك : يا بني لا تخرج لصلاة الفجر ، فالمسجد بعيد ، ويخشى عليك من كلب ، لا تذهب فلا تُطاع . ولو قال لك أبوك : يا بني لا تطلب العلم ، فهل الإنسان يمتثل أمر أبيه في هذه الحال ؟ لا . ومن أحسن ما رأيتُ في هذا الموضوع ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله : ( إنه لا تجب طاعة الوالدين في ترك أمر ينفعك ولا يضرهما ) . هذا كلام جيد يكتب بماء الذهب ، فكل شيء ينفعك ولا يضر والديك فإنه لا تجب طاعتهما فيه . كما لو طلبت العلم . ولا يرد على هذا مسألة الجهاد ـ أن بر الوالدين أفضل من الجهاد ـ لأن الجهاد فيه تعريض للنفس بالقتل ، والقتل يقلق راحة الوالدين . ص493 ـ 494 .
22 ـ هذا الدين الإسلامي ليس فيه عصبية ، ولا يجوز أن يتخذ الإسلام منه عصبية ؛ لقوله تعالى : ( لا نفرق بين أحد منهم ) بخلاف ما يسلكه بنو إسرائيل حيث لا يؤمنون إلا بما جاء عن أنبيائهم فقط . أما الدين الإسلامي فـ ( لا نفرق بين أحد منهم ) .. كلهم عندنا رسل الله ، لكن نفرق في العبادات ، لا نتعبد إلا بما أُمرنا بالتعبد به ، و يذكر أن شخصاً حاج عالماً من علماء المسلمين ، فقال له : لماذا تُجيزون لأنفسكم أن تتزوجوا ببناتنا ، ولا تُجيزون لنا أن نتزوج ببناتكم ، فقال له العالم : لأننا نؤمن برسولكم ولا تؤمنون برسولنا ، فألقمه حجراً . ص495 .
23 ـ قال تعالى : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) ، ولهذا ينبغي للإنسان أن يتأول هذه الآية ولو مرة واحدة ، إذا أعجبه شيء من ماله فليتصدق به لعله ينال هذا البر . ص 526 .
24 ـ تقدم المكان في العبادة له أثر في تفضيله ؛ لقوله تعالى : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ) . وهذا يراد به التفضيل ، ولهذا قال العلماء : إن المسجد الأسبق في إقامة الجماعة فيه أفضل من المسجد الحديث . فإذا كان حول الإنسان مسجدان الأول قديم ، والآخر جديد ، ولم يتميز أحدهما عن الآخر بفضيلة أخرى ، فإن القديم أفضل من الجديد لسبقه من العبادة فيه . ص556 . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فوائد من المجلد الثاني : ==================
1 ـ قال تعالى : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون * ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد جاءهم البينات ) . قوله : ( كالذين تفرقوا ) : أتى بها بعد قوله : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) لأن الأمة إذا تركت الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا بد أن تتفرق ؛ لأنه لا يكون لهم في هذه الحال كلمة جامعة ، كل واحد يعمل على هواه لأنه ما يُدعى إلى الخير ، والنفوس لها نزعات متباينة مختلفة ، وكذلك أيضاً إذا لم يكن أمر بمعروف ولا نهي عن منكر تفرق الناس ولا بد ؛ لأن هذا يريد الزنا ، وهذا يريد شرب الخمر ، وهذا يريد السرقة ، وهذا يريد أشياء غير الأولى فيحصل التفرق ، فإذا أمروا بالمعروف صاروا كلهم على المعروف ، وإذا نهوا عن المنكر صاروا كلهم على ترك المنكر . ص8 ـ 9 .
2 ـ من أحسن ما أُلف في الجمع بين الآيات المتعارضة كتاب محمد الأمين الشنقيطي المسمى ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) وهو كتاب جيد ومفيد لطالب العلم . ص31 .
3 ـ قال عن اليهود : ( ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءو بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ) الضارب هو الله تعالى ، والمسكنة هي الفقر ، فهم أذلاء ليس عندهم شجاعة ، فقراء ليس عندهم غنى ، ولكن يجب أن نعلم أن الغنى ليس كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس والقلب ، فهؤلاء قد ضربت عليهم المسكنة ، فهم دائماً في فقر حتى ولو حصّل الإنسان منهم ملايين الملايين فهم في فقر ، ولذلك حتى الآن نجد أن اليهود أحرص الناس على المال ، وأنهم لا يمكن أن يبذلوا فلساً إلا وهم يؤملون أن يحصلوا درهماً ، ولا يبذلون درهماً إلا ويؤملون أن يحصلوا ديناراً ، وهذه حالهم صاروا أغنى العالم إن لم نقل هم أغنى العالم ، لكنهم أغنى العالم بكثرة العرض لا بالقلب والنفس ، فهم أشد الناس فقراً . ص66 ـ 67 .
4 ـ ذكر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بهذه الغزوة العظيمة ( أحد ) التي فيها من الأسرار والحكم ما يتبين به أن ذلك هو عين الصواب وعين الخيرة للمؤمنين ، وقد ذكر الحافظ ابن القيم ـ رحمة الله عليه ـ في كتابه ( زاد المعاد ) من الحكم في هذه الغزوة ما لا تجده في أي كتاب آخر ، فتحسن مراجعته فإنه مفيد . ص109 .
5 ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع ) . ولهذا يجد بعض الناس إذا أراد التثاؤب شدة عظيمة في منع فتح فمه ، مع أن المشروع أن تكظم ولا تفتح الفم ، وقد ذكر بعض العلماء شيئاً ييسر لك الكظم ، قال : إذا أًصابك التثاؤب فعضّ شفتك السفلى . ص172 .
6 ـ قال تعالى : ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ) . قوله : ( لا يحب الظالمين ) قد يبدو غريباً على القارئ مناسبة هذه الجملة لما قبلها ( ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ) كيف هذا ؟.. فيقال : الجواب من وجهين : الوجه الأول : أن المراد بقوله : ( والله لا يحب الظالمين ) بيان أن الذين تخلفوا عن غزوة أحد ، وهم مقدار ثلث الجيش لم يكن منهم شهيد ؛ لأنهم نجوا بأنفسهم ، فلكونهم ظلمة لم يتخذ الله منهم شهداء ، فيكون ذلك تنديداً بالذين تخلفوا ورجعوا من أثناء الطريق ، وهم عبدالله بن أبي ومن تبعه من المنافقين ، فكأنه قال : اتخذ منكم أيها الصفوة شهداء ولم يتخذ من أولئك الذين نكصوا على أعقابهم ؛ لأن هؤلاء ظلمة والله لا يحبهم . الوجه الثاني : أن الذين قتلوا في أحد ؛ قتلوا على أيدي المشركين ، والمشركون هم الظالمون كما قال تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) فهل انتصار الظالمين في أحد ، واستشهاد من استشهد من المسلمين في أحد لأن الله يحب الظالمين ، ويكره المؤمنين ؟ لا ! إذن ( والله لا يحب الظالمين ) لئلا يظن ظان أن انتصار المشركين في تلك الغزوة من محبة الله لهم ، فبيّن الله عز وجل أنه لا يحب الظالمين . ص224 .
7 ـ قال تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل ) في هذه الآية جواز موت الرسول وإمكان قتله ؛ لقوله : ( أفإن مات أو قتل ) فإن قال قائل : يشكل على هذا أن الله قد قال في الشهداء : ( ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ) وقال : ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ) . فإذا كان هذا في الشهداء فيكف يكون الرسول ميتاً مع أنه أفضل من الشهداء ؟ الجواب عن ذلك أن نقول : إن الحياة حياتان : حياة دنيوية جسدية وهي حياة الدنيا .. وحياة برزخية ليست كحياة الدنيا ، فهذه هي التي تثبت للشهداء . والأنبياء أفضل من الشهداء حيث حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم ، وأما الشهداء فقد تأكل الأرض أجسادهم ، فالأنبياء أجسادهم باقية وحياتهم البرزخية أكمل من حياة الشهداء بلا شك . ص243 .
8 ـ الله عز وجل ناصر لأوليائه ؛ لقوله تعالى : ( وهو خير الناصرين ) وهذا من ولايته . فإن قال قائل : كيف نجيب عما أخبر الله به في كتابه أن من الناس من قتل الأنبياء بغير حق ؟ فالجواب عن هذا من أحد وجهين : الوجه الأول : أن المراد بالنصر أو الوعد بالنصر لمن أمر بالجهاد ، فإن الله ينصره ؛ لأن الله لا يكلفه بشيء إلا والعاقبة له فيه ، وأما الذين قتلوا من الأنبياء فلم يؤمروا بالجهاد . الوجه الثاني : أن نقول : إن النصر نوعان : أ. نصر شخص معين بمعنى أن الإنسان يدركه بشخصه . ب. نصر معنوي بمعنى أن الله ينصر من جاء بهذا ولو بعد موته . ولهذا نجد أقوال الأئمة ـ أئمة المسلمين ـ كأنهم أحياء بيننا ، أقوالهم حية فكأنهم أحياء ، إذا أخذت كتاباً لعالم من العلماء وقرأته وانتفعت به فكأنما درّسك هذا العالم ، إذن هذا نصر ، نصر لمبدئه وهدفه ودعوته . وجه ثالث أيضاً : أن نوزع النصر على الزمن ، فنقول : إن النصر قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة ، والذين قتلوا من الأنبياء سوف يكون نصرهم في الآخرة عندما يختصمون مع أقوامهم ، فإن أهل الحق وأهل الباطل يوم القيامة يختصمون عند الله ؛ يختصمون فيقضى بينهم فيما هم فيه يختلفون . فلا تظنوا أن الخلاف الذي يقع بين أهل الحق وأهل الباطل ينتهي بالدنيا ، كلا ، سوف يحكم الله بينهم يوم القيامة وينصر أهل الحق ( لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم ) ، ( إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) ، والآيات متعددة تدل على هذا ( إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) ، إذن إذا حكم الله لأهل الحق على أهل الباطل يوم القيامة فهذا نصر . ص290 ـ292 .
9 ـ المعصية بعد النعمة أشد من المعصية قبل النعمة ؛ لقوله تعالى : ( وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ) وإلا لكان يقول : ( وعصيتم ) فقط ، لكن كون المعصية تقع بعد أن أراهم الله ما يحبون هذه أعظم ، أعظم مما إذا لم يكن الله قد أراهم ما يحبون . ص313 .
10 ـ قال تعالى : ( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) . إن الإنسان الذي لا يكون له هم إلا نفسه في هذه المواطن قد يُبتلى ـ والعياذ بالله ـ بهذه البلوى العظيمة ، وهي أن يظن بالله غير الحق ( يظنون بالله غير الحق ) . وقد ذكر ابن القيم في ( زاد المعاد ) أنواعاً كثيرة من الظن بالله غير الحق منها : أنهم ظنوا أن هذه الهزيمة لا انتصار بعدها ، وهذا ظن سوء ؛ فكل من ظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة فقد ظن بالله ظن السوء ، ومن أراد أن يرجع إلى كلام ابن القيم في زاد المعاد فهو كلام جيد لم يوجد لا في كتب التفسير ولا في كتب التاريخ . ص337 .
11 ـ قال تعالى : ( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) قد يكون في هذه الآية إشارة إلى أن الشهداء يدفنون في مكان استشهادهم ؛ لقوله : ( لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) أي في أماكن قتلهم . وهذا إن لم تفده هذه الآية فقد استفيد من السنة ، فإن قوماً من الصحابة حملوا قتلاهم في أحد لدفنهم في المدينة فأمر النبي بردهم إلى مصارعهم يدفنون هناك فدفنوا في أحد . ص338 .
12 ـ التشبه بالكفار اختلف فيه العلماء ، فذهب أصحاب الإمام أحمد في المشهور عنهم إلى أن التشبه بالكفار مكروه ، والمكروه عند الفقهاء كراهة تنزيه ، أي يثاب تاركه امتثالاً ، ولا يعاقب فاعله ، لكن قولهم هذا ضعيف . والصواب أن التشبه بالكفار حرام .. ولما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية حديث : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) في كتابه القيم الذي أشير به على كل طالب علم وهو ( اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم ) لما ذكر هذا الحديث قال : وأقل أحوال هذا الحديث التحريم . ص350 ـ 351
13 ـ ( من بورك له في شيء فليلزمه ) يعني إذا عمل الإنسان عملاً ورأى فيه البركة والثمرة فليلزمه ، ولنضرب لهذا مثلاً بحال طالب العلم الذي شرع في دراسة كتاب أو مراجعته ، ووجد فيه خيراً ، ووجد أنه يستفيد وينتفع ، فنقول له : الزم هذا وأكمله ، ولا تقل : هذا كتاب مختصر قليل ، كمن شرع في مطالعة كتاب ( زاد المستقنع ) ، ورأى فيه بركة ، وانتفع به ، إلا أنه لم يكمله وقال لا يكفي هذا ، أريد أن أطالع ( الإنصاف ) ، ثم قال : لا يكفي هذا ، أريد أن أطالع ( الإنصاف ) ، ثم قال : لا يكفي هذا ، أريد أن أطالع ( المغني ) ، هذه طريقة غير مجدية ، بل إذا بارك الله لك في شيء فالزمه حتى لا يضيع عليك الوقت . وهنا مسألة أيضاً قد ترد وهي : أنه يريد أن يطالع مسألة في الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ، فيراجع الفهرس حتى يقع عليها ، ثم يلاحظ مسألة ثانية ، فيذهب ينظر فيها فيضيع عليه الوقت ، ولهذا كان من حكمة الرسول عليه الصلاة والسلام ، أن يبدأ بالشيء الذي يريده ، لما دعاه عتبان بن مالك رضي الله عنه ، ليُصلي في مكان بيته يتخذه مصلى ، خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه ، فلما دخل البيت قال : يا رسول الله ، قد صنعت لكم طعاماً . قال : ( أين تحب أن أصلي من بيتك ؟ ) ، سأله قبل الطعام ، لماذا ؟ . لأنه جاء لهذا الغرض . فابدأ بالغرض الذي أتيت إليه ، فهذه المسألة ينبغي للإنسان أن يجعلها على باله في تصرفاته في العلم وفي الدنيا أيضاً . وهذه نأخذها من قوله تعالى : ( فإذا عزمت فتوكل على الله ) . ص373 ـ 374 .
14 ـ الإنسان إذ عمل العمل وسعى فيه ولم يكمله كتب له أجر كامل ، ولهذا شواهد منها قوله تعالى : ( ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ) ، ومنها قوله النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً ) فالإنسان إذا سعى في العمل ولكنه لم يدركه فإنه يكتب له أجره كاملاً ، حتى طالب العلم لو مات قبل أن يدرك ما يريد من العلم فإنه يكتب له ما نوى ؛ لأنه شرع فيه وعمل ما يقدر عليه فينال الأجر . ص452 .
15 ـ قال تعالى : ( وأن الله ليس بظلاَّم للعبيد ) وجاء في الحديث : ( لو أن الله عذَّب أهل سماواته وأرضه ، لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم ) . فلنا في هذا الحديث مخرجان : الأول : أنه يعذبهم وهو غير ظالم لهم ، أي لا يُعذبهم إلا لذنب ، فيكون الحديث مطابقاً للآية. الثاني : أن المراد بذلك مناقشة الحساب ؛ لأن الله لو ناقشهم لكانت نعمة واحدة من نعمه تُحيط بجميع أعمالهم ، فيبقون وليس لهم رصيد . فإن قال قائل : هذه صفة سلبية كما يقولون ، فهل توجد الصفات السلبية في صفات الله ؟ فالجواب : نعم ، ولكن المراد بالصفات السلبية : ثبوت كمال ضدها ، فهو لا يظلم لا لعجزه عن الظلم ، ولكن لكمال عدله . ص501 ـ 502 .
16 ـ قال تعالى : ( الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رُسُلٌ من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ) . إن قال قائل : لماذا عدل الله عز وجل عن المطالبة بصدق ما ادَّعوه ؟ قلنا : هذا من باب موافقة الخصم ، يعني على فرض أن الأمر كما قلتم فقد اعتديتم حتى فيما جيء به من مطلوبكم ، فاعتديتم على الرسل . وهنا فائدة وهي : أن من ادعى دعوة فإننا نعامله بمراتب : المرتبة الأولى : صحة ما قال . المرتبة الثانية : مخالفته لما قال . فهنا لم يُطالبهم الله بصحة ما قالوا من باب موافقة الخصم ، وقولنا من باب موافقة الخصم أحسن من قولنا من باب التنزل ؛ لأن الذي معنا قرآن ، وإن قلنا : تنزّل فإنه بناء على العبارة المعروفة عند العلماء . والمعنى أن يقول : هب أن الأمر كما قلتم وأنه عهد إليكم ألا تؤمنوا لرسول حتى يأتيكم بقربان تأكله النار ، فقد جاءكم رسول بقربان تأكله النار ومع ذلك قتلتموه ، إذن فطلبكم هذه الآية المعيّنة ليس عن صدق ؛ لأنها قد جاءتكم ومع ذلك فقد كذبتم الرسل وقتلتموهم ، فهنا عدل عن المطالبة بصحة الدعوى ، من باب موافقة الخصم ، أي أنكم لا تريدون أن تُصدّقوا الرسل ، وإنما تريدون تكذيبهم . ص503 ـ 504 .
17 ـ قال تعالى : ( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً ) . وهنا فرق بين الأذية والضرر ، قد يتأذى الإنسان بالشيء ولا يتضرر منه ، ولهذا أثبت الله أن عباده يؤذونه ، أي من عباده من يؤذيه ، ونفى أن يكون أحد يضره ، فقال الله تعالى في الحديث القدسي : ( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ) . وقال تعالى في الحديث القدسي : ( يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ) فأثبت الأذية أيضاً ، أما الضرر فلا . ص518 ـ 519 .
18- التنبيه على فضيلة العزم في الأمور , لقوله تعالى : ( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) وكل ما كان الإنسان عازما في أموره كان ذلك أنجح له وأحسن . ص523 .
19- المسلم إذا فرح بما أنعم الله عليه من العمل وأحب أن يحمد بما يفعل لا رياء ولكن من طبيعة البشر أنه يحب أن يحمده الناس , فإن هذا لا يدخل في الآية , فالذي يدخل في الآية صنفان : الصنف الأول : أهل الكتاب الذين فرحوا بما أتوا من كتمان صفة البني ص وعدم الإيمان به , ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا حيث يتظاهرون للناس بأنه لو جاء الرسول الذي بشر به عيسى لآمنا به . والصنف الثاني : المنافقون , فإن المنافقين يفرحون بما أتوا ويقولون : نحن أسلمنا أمام محمد وأصحابه وهم على العكس من ذلك , ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الإخلاص والمحبة الله ورسوله واتباع رسوله ص . ص530
20- قال تعالى : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ) اختلاف الليل والنهار على أي وجه من الاختلاف يراد ؟!. الجواب : أنه يراد اختلافهما من وجوه شتى : أولا : من جهة أن الليل ظلمة والنهار نور , وهذا من آيات الله . ثانيا : كذلك أيضا اختلافهما من جهة الطول والقصر . أحيانا يطول الليل , وأحيانا يطول النهار , وأحيانا يتساويان . ثالثا : اختلاف الليل والنهار يدخل فيه اختلافهما حرا وبردا , أحيانا يكون هذا حارا وهذا باردا , وأحيانا يتساويان . رابعا : ومن ذلك أيضا اختلافهما في الرخاء والشدة . أحيانا تمر بك الأيام رخاء , وأحيانا تمر بك الأيام شدة . خامسا : من هذه الآيات : اختلافهما في العز والذل والنصر والخذلان . ص539.
21- حاشية الخضري على شرح ابن عقيل من أحسن الحواشي التي كتبت على شروح ألفية (ابن مالك ), لأنه متأخر وجمع أقوال من سبقه , وله تحرير جيد في بعض الأشياء التي يحررها , فأشير بها على كل من أراد أن يقرأ ألفية (ابن مالك) وشرحها (لابن عقيل). فإن هذه الحاشية مفيدة . ص543 .
22- قال تعالى : ( لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ) فإذا أثنى على المتفكرين في الخلق , فالمتفكرون في الشرع من باب أولى ؛ لأن الشرع ليس أمرا محسوسا , فالتفكر فيه أبلغ في الإيمان من التفكر في الخلق . الخلق أمر محسوس كل إنسان يدركه , لكن حكم وأسرار الشرائع ليس لكل أحد أن يدركها . ص547 .
23- قوله تعالى : (فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا ). السيئات طلبوا تكفيرها , والذنوب طلبوا مغفرتها ؛ لأن السيئات : هي الصغائر ، وهي تكفر بالأعمال الصالحة ؛ بالطاعات ، ولا يمكن أن تكفر بالطاعات إلا بعد أن تكون الطاعات على الوجه الأكمل ؛ لأن الطاعات إذا نقصت لم تقو على تكفير السيئات . إذ إن الإنسان قد يفعل الطاعة ولا يحصل له منها إلا إبراء الذمة , لكن لا تقوى على التكفير حتى تكون تامة بقدر المستطاع , ولهذا قالوا : (وكفر عنا سيئاتنا ) بما نفعله من الأعمال الصالحة . وهم طلبوا من الله تكفير الكبائر والصغائر ؛ لأن الكبائر لا تكفر , وإنما تحتاج إلى مغفرة من الله , إما مجرد فضل منه , وإما بعمل أسباب كالاستغفار والتوبة حتى ترفع حكم هذه الكبائر . فإن قال قائل : هل في هذا الدعاء جواز الدعاء بالموت ؟.. الجواب : ليس كذلك , فمعلوم أن الله لن يتوفاهم إلا إذا جاء أجلهم , وليس فيها أنهم يتمنون تقديم الوفاة , وهذا نظير قول يوسف عليه الصلاة والسلام : (أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين ) يوسف :101 ليس المعنى أنه يسأل الله أن يتوفاه الآن , بل أن يتوفاه على الإسلام متى جاء أجله , وكذلك قول مريم : (قالت يا ليتني مت قبل هذا ) ليس معناه أنها تمنت الموت بل تمنت أن هذا لم يقع , يعني معناه نقول : يا ليتني مت وأنا ما رأيته . ص555 ـ 557 .
24- بيان أن رسول الله ص بذل الجهد في دعوة الخلق إلى الحق ؛ لأن النداء يكون برفع الصوت , فكأن الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو الناس بأعلى صوته يناديهم للإيمان . 557 .
هذا ما تهيأ إعداده وتيسر إيراده من فوائد هذه السورة
الجليلة .. |