(22)
المبحث السادس:
العلم بالملائكة ووظائفهم
إن الذي يعلم أن
لله تعالى مخلوقات ملأت السماوات، وأحاطت بالعرش، وانتشرت في الكون كله تنفذ
أمر الله ولا تعصي له أمراً، وأن من وظائفها العناية بهذا الإنسان والاهتمام به
منذ أن أراد الله خلقه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بل إنهم ليتلقونه في
الآخرة، وهم الذين يفتحون لأهل الجنة أبوابها، ولأهل النار أبوابها، وخزنة
الجنة ملائكة وخزنة النار ملائكة.
إن الذي يعرف ذلك إجمالا،ً ليكاد ترتعد فرائصه من شدة الخوف من هؤلاء الذين
يلازمونه في كل أحواله، ويكتبون كل أعماله وحركاته، فيلقى كل ما يكتبونه محضراً
عند لقاء ربه، فكيف إذا عرف ذلك بالتفصيل الذي أذن الله به؟
ويكفي أن نذكر
شيئاً من وظائفهم المتعلقة بهذا الإنسان مع النصوص الدالة عليها باختصار، لنرى
الأثر الذي يحدثه العلم بالملائكة والإيمان بهم في نفس المؤمن.
1-
دوام عبادتهم وعدم عصيانهم مطلقاً، كما قال تعالى: )فإن استكبروا فالذين عند
ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون( [فصلت: 38].
وقال تعالى: )يا أيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس
والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون(
[التحريم: 6].
جُمع في هذه
الآية بين ثلاثة أمور في الملائكة:
الأمر الأول: أن
منهم من وظيفته القيام على شئون النار.
الأمر الثاني: أن هؤلاء القائمين على جهنم متصفون بما يناسبها، وهو الغلظة
والشدة.
الأمر الثالث: كمال طاعتهم لربهم وعدم عصيانه، ولهذا حذّر الله المؤمنين وأمرهم
بوقاية أنفسهم من هذه النار التي عليها هؤلاء الملائكة الذين هذه صفاتهم، فإنهم
لا يمكن أن توجد في قلوبهم رحمة لمن أمرهم الله بحبسه في نار جهنم.
وإن هذه الصفة التي هي عدم المعصية، والطاعة الكاملة لله سبحانه وتعالى من أعظم
ما يبعث في نفس المؤمن محاولة الارتقاء بنفسه في طاعة الله إلى أعلى مستوى يقدر
عليه، وإن لم يكن تكوينه مثل تكوين الملائكة في العصمة، إلا أن الاقتداء في
الاجتهاد في الطاعة حسب طاقته يرفعه إلى أعلى ما يطيقه البشر، وفي ذلك كفاية
بالنسبة للإنسان.
2-
إن الملائكة لشدة حرصهم على طاعة الله وكونهم جبلوا على ذلك، يحبون أن يكون
الكون كله معموراً بطاعة الله بحيث لا يشذّ عنها أحد من الخلق، ويكرهون أن يوجد
في الكون السفلي ما يخالف الكون العلوي، بوجود عصاة وفساد، لذلك أبدوا شفقتهم
وخوفهم من أن تكون هذه الأرض محل فساد من بين سائر الكواكب والسماوات، من
اعتداءٍ وسفك دماءٍ وظلم، وغير ذلك، كما قال تعالى: )وإذ قال ربك للملائكة إني
جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح
بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون( [البقرة: 30].
إنهم لشدة حرصهم على طهارة الكون من الشرك والظلم والاعتداء، ومحبتهم للتوحيد
والطاعة والعدل والأمن والاستقرار، يود أن يكون العالم السفلي (الأرض) مثل
العالم العلوي، بأن تكون مقراً لهم يعمرونها بعبادة الله وطاعته، ولكن لحكمةٍ
يعلمها الله، وقدرٍ أراده، وعلم محيط بالمصالح والمفاسد، أراد تعالى أن يكون
سكان هذه الأرض من جنس آخر: جنس خلقه الله من قبضته من طين ونفخة من روح، جنس
يكون تكليفه اختياراً، ولا تكون العبادة والطاعة سجية له كالملائكة، بحيث لا
يقدر على الخروج من فلك الطاعة في كل أحيانه، بل يكون من طبيعته أن لديه قدرة
على الطاعة والمعصية، ونوع اختيار، ويكفي أن يبعث الله إليه الرسل وينزل عليه
الكتب لهدايته، والملائكة ترافق هذا الإنسان من وقت علوقه برحم أمه إلى أن يدخل
الجنة أو النار.
3-
ولعل في جعل الله تعالى سفيره إلى رسله الهداة من البشر حبريل عليه السلام
أمينه على وحيه، تكريماً منه تعالى لملائكته الحريصين على وجود الصلاح في هذه
الأرض، كما قال تعالى: )إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم
أمين( [التكوير: 19-21].
وهم بذلك يقيمون الحجة على البشر بأنهم قد أتوهم بالهدى من عند الله الذي فيه
صلاحهم، وبيان ما يجب عليهم أن يجتنبوه من الفساد.
4-
ولهذا جعلهم الله تعالى حراساً على البشر، يراقبون نشاطهم وأفعالهم ويكتبونها
عليهم في سجلات تنشر عليهم يوم القيامة، كما قال سبحانه وتعالى: )وإن عليكم
لحافظين، كراماً كاتبين، يعلمون ما تفعلون( [الانفطار: 10-12].
وقال تعالى: )ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل
الوريد، إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا
لديه رقيب عتيد( [ق: 16-18].
إن الإنسان المؤمن الذي يعلم أن حراساً أمناء كَتَبَةً، يعلمون ما يفعل،
ويكتبون عليه نشاطه كله في سجلاتهم في كل لحظة من لحظات حياته، لا فرق بين
خلوته وجلوته، لا بد أن يسعى جاهداً في عمل كل صلاح يقدر عليه وفي البعد عن كل
فسادٍ أو شرٍ.
(23)
5-
ومن وظائفهم توفي الأرواح ونزعها، وهم ينقسمون إلى قسمين: ملائكة رحمة تنزع نفس
المؤمن نزعاً خفيفاً، وملائكة عذاب تنزع روح الكافر نزعاً شديداً عنيفاً، كما
قال تعالى: )قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون( [السجدة:
11].
وقال تعالى: )وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت
توفته رسلنا وهم لا يفرطون( [الأنعام: 61].
وقال تعالى: )ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم
أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون( [الأنعام: 93].
وقال تعالى: )ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم
وذوقوا عذاب الحريق( [الأنفال: 50].
إن المؤمن الذي يعلم أن من وظائف الملائكة نزع روحه وأنه إذا حاد عن الجادة
تولت نزع روحه ملائكة العذاب، ليجتهد كل الاجتهاد في السعي إلى ما يرضي ربه
سبحانه وتعالى ليكون الموكلون به عند زهوق روحه في آخر حياته ملائكة الرحمة لا
ملائكة العذاب.
6-
وهم الذين يمتحنون الميت في قبره، كما في حديث البراء بن عازب، رضي الله عنه،
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: )يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت( قال:
نزلت في عذاب القبر، فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله ونبيي محمد صلى الله
عليه وسلم، فذاك قوله عزّ وجلّ: )يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في
الحياة الدنيا وفي الآخرة( [مسلم (4/2201) والآية في سورة إبراهيم: 27].
وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بيان من يسأل الميت، وصفته وتفصيل
سؤاله، وأقسام المسئولين وأجوبة كل قسم، وما يترتب على تلك الأجوبة في البرزخ.
فقد روى رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قبر الميت
-أو قال أحدكم- أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير
فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول هو عبد الله ورسوله أشهد
أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا،
ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ثم يُنَوَّر له فيه، ثم يقال له: نم،
فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب
أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك.
وإن كان منافقا قال: سمعت الناس يقولون فقلت مثله لا أدري، فيقولان: قد كنا
نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه، فتختلف فيها أضلاعه
فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك( [الترمذي (3/374-375) بتحقيق
محمد فؤاد عبد الباقي، وقال: لم يخرّجه من أهل السنة سوى الترمذي. وقال
الترمذي: حديث حسن غريب].
وعلم الإنسان بهذا الامتحان من ملائكته المقربين الذين لا يعصونه يجعله يعدّ له
عدته ويعيش مشفقاً على نفسه طول حياته، فلا يعتدي على حقوق الله ولا على حقوق
عباده، وهذا هو الذي يؤتمن على دماء الناس وأعراضهم وأموالهم.
7-
ومن وظائف الملائكة أن طائفة منهم يكونون خزنة لجنة، وأخرى خزنة لجهنم، وهم
الذين يفتحون أبواب الجنة للمؤمنين، وأبواب جهنم للكافرين، يستقبلون المؤمنين
بالتبشير، ويستقبلون الكافرين بالتبكيت والتوبيخ والإهانة، كما قال سبحانه
وتعالى: )ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم
نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء
بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون. ووفيت كل نفس ما عملت وهو
أعلم بما يفعلون، وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها
وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء
يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين. قيل ادخلوا أبواب جهنم
خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين. وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى
إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين(
[الزمر: 68-73].
إن رحلة الإنسان من وقت خلقه في بطن أمه إلى أن يدخل الجنة أو النار، وملائكة
الله معه لا تفارقه لممَّا يقوي العزم على طاعة الله والبعد عن معصيته وإضرار
عباده، وإن عدم تربية الإنسان على هذا الباب من أعظم المصائب والكوارث التي
تجني ثمارها البشرية من الظلم والاعتداء والإخلال بالأمن.
وللملائكة وظائف أخرى لم نتعرض لها هنا، واكتفينا بما ذكر لقوة صلته بهذا
الإنسان.