(11)
المبحث الثاني:
العلم بالله تعالى
العلم بالله
سبحانه وتعالى هو أساس العلم النافع، وكل علم لم يُبْنَ على هذا الأساس فليس
بنافع في الحقيقة، وإن اغترّ به أهله، لأنه لا يحقق لصاحبه سعادة في الدنيا ولا
هداية، ولا ينجيه من شقاء الآخرة وعذابها، بله أن يوصله إلى رضا الله ودار
نعيمه.
والعلم به سبحانه يعني التعرف على أسمائه وصفاته وأفعاله عن طريق كتابه وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم، مع العلم أنه يستحيل على المخلوق مهما بلغ من
الاجتهاد في معرفة الله أن يحيط به، كما قال تعالى )ولا يحيطون به علماً( [سورة
طه: 110].
وفي هذا المبحث أربعة مطالب:
المطلب الأول:
العلم بألوهية الله
العلم بألوهيته
تعالى التي لا يشاركه فيها أحد، وهي الأساس الأول من أسس الإسلام، وإليها دعا
جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام من لدن نوح إلى خاتمهم محمد رسول الله صلى
الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذا حقيقة قول (لا إله إلا الله) وبذلك بعث جميع
الرسل، قال تعالى: )وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا
أنا فاعبدون( [الأنبياء: 25]، وقال: )واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا
من دون الرحمن ءالهة يعبدون( [الزخرف: 45] وقال تعالى: )ولقد بعثنا في كل أمة
رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت( [النحل: 36].
"وجميع الرسل افتتحوا دعوتهم بهذا الأصل" [مجموع الفتاوى (10/51)].
والإله معناه المعبود بحق، وألوهيته سبحانه مطلقة كربوبيته، فكما أنه تعالى
الربّ الخالق الذي لا ربّ ولا خالق سواه، فهو سبحانه الإله المعبود الذي لا إله
سواه، وهي تتضمن أن يكون المخلوق عبداً له لا لسواه، والعبودية هي كمال الحب
وكمال الخضوع للإله سبحانه، وذلك يقتضي طاعته المطلقة والبعد عن معاصيه، فإن
العبادة شاملة لكل حياة الإنسان، كما قال ابن تيمية رحمه الله: "العبادة هي اسم
جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة،
والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبرّ الوالدين، وصلة
الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار
والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمساكين وابن السبيل والمملوك من
الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب
الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر
لنعمه، والرضا بقضائه والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك
هي من العبادة ..." [الفتاوى (10/149-150)].
وقال ابن القيم رحمه الله في هذا المطلب: "فمشهد الألوهية هو مشهد الحنفاء، وهو
مشهد جامع للأسماء والصفات، وحظ العباد منه حسب حظهم من معرفة الأسماء والصفات،
وحظ العباد منه حسب حظهم من معرفة الأسماء والصفات، لذلك كان الاسم الدال على
هذا المعنى هو اسم الله جلّ جلاله، فإن هذا الاسم هو الجامع، ولهذا تضاف
الأسماء الحسنى كلها إليه، فيقال: الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أسماء
الله، ولا يقال: الله من أسماء الرحمن، قال تعالى: )ولله الأسماء الحسنى( [سورة
الأعراف: 179]. فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها، وكل مشهد سواه، فإنما هم
مشهد لصفة من صفاته، فمن اتسع قلبه لمشهد الإلهية، وقام بحقه من التعبد الذي هو
كمال الحب بكمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية، فقد تم له غناه بالإله
الحق، وصار من أغنى العباد، ولسان حال مثل هذا يقول:
غنيت بلا مال عن الناس كلهم وإن الغنى العالي عن الشيء لا به"
[طريق الهجرتين وباب السعادتين، ص: 78-79 طبع قطر].
قلت وإنما يكون الغنى بالله بالتربية الإسلامية التي تحمل الفرد على إيصال
الخير إلى الناس وكف الأذى عنهم، والاستغناء بالله تعالى عن المخلوقين.
وقال سيد قطب رحمه الله: "يقوم التصور الإسلامي على أساس أن هناك ألوهية
وعبودية، ألوهية يتفرد بها الله سبحانه، وعبودية يشترك فيها كل من عداه، وكما
يتفرد الله سبحانه بالألوهية، كذلك يتفرد تبعاً لهذا بكل خصائص الألوهية، وكما
يشترك كل حي، وكل شيء بعد ذلك في العبودية، كذلك بتجرد كل حي وكل شيء من خصائص
الألوهية، فهناك إذاً وجودان متميزان: وجود الله ووجود ما عداه من عبيد الله،
والعلاقة بين الوجودين هي علاقة الخالق بالمخلوق والإله بالعبيد" [خصائص التصور
الإسلامي ص:229-230، 263 الطبعة الثانية].
وقال في موضع آخر: "إن توحد الألوهية وتفردها بخصائص الألوهية، واشتراك ما عدا
الله ومن عداه في العبودية، وتجردهم من خصائص الألوهية، إن هذا معناه ومقتضاه
أن لا يتلقى الناس الشرائع في أمور حياتهم إلا من الله، كما أنهم لا يتوجهون
بالشعائر إلا لله، توحيداً للسلطان الذي هو أخص خصائص الألوهية، والذي لا ينازع
الله فيه مؤمن ولا يجترئ عليه إلا كافر ..." [خصائص التصور الإسلامي ص:229-230،
263 الطبعة الثانية].
فالعبد مأمور أن يحقق العبودية لله فيطيعه في أمره ويجتنب معصيته، وإذا قام هذا
المعنى في نفسه على الحقيقة لم يعمل في الدنيا إلا خيراً ولا يرتكب شراً يضره
أو يضر غيره، فإن فعل شيئا من ذلك أسرع إلى التوبة النصوح. وبذلك يتحقق أمنه
وأمن غيره معه.
(12)
المطلب الثاني:
العلم بشمول علم الله وإحاطته بكل شيء
لقد كثر في
القرآن الكريم ذكر علم الله المحيط بكل شيء بأساليب شتى. وكلها ترمي إلى هدف
واحد، وهي إشعار الإنسان بأن أعماله لا تخفى على الخالق، وأنها محفوظة مكتوبة،
وسيحاسب عليها.
قال تعالى في شأن أهل الكتاب الذين حذّر بعضهم بعضاً من الاعتراف بما في كتبهم
مما يوافق القرآن ويؤيد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، لئلا يكون اعترافهم ذلك
حجة للمسلمين عند الله، وكأن الله لا يعلم ذلك لو كتموه، قال تعالى: )وإذا لقوا
الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله
عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون، أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون
وما يعلنون( [البقرة: 76-77].
تأمل هاتين الآيتين، هل تجد شيئاً يمكن إخفاؤه على الله الذي أحاط علمه بما في
السماوات وما في الأرض، وما يخطر للمرء في صدره، وهل يقدر الإنسان أن ينكر
شيئاً مما عمل في الدنيا عندما يلاقي الله فيجد عنده كل ما عمل من خير أو شر؟
ولقد أعذر الله إلى عباده وحذرهم نفسه رأفة بهم، ومن لم يحذر بعد ذلك فلا
يلومنّ إلا نفسه.
وأن الإنسان مهما احتال على الناس وأظهر غير ما يبطن فصدقوه وظنوا به الخير،
وهو فاسد القلب سيئ العمل، فإن ذلك غير خاف على الله.
وأنه قد يفعل السوء على غفلة من الناس وينسبه إلى غيره من ذوي البراءة، ولكنه
لا يفوت على الله الذي لا يخفى عليه شيء، وإن الإنسان قد يدافع عن المذنب
ويحامي عنه، ويثبت أمام الناس براءته، ولكنه لا يقدر على ذلك عند الله، كما قال
تعالى: )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن
للخائنين خصيما. واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما، ولا تجادل عن الذين
يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما. يستخفون من الناس ولا
يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون
محيطا. هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم
القيامة أم من يكون عليهم وكيلا. ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله
يجد الله غفورا رحيما. ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما
حكيما، ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا(
[سورة النساء: 105-112، وراجع في تفسير الآيات وسبب نزولها الجامع لأحكام
القرآن للقرطبي (5/375-380)].
وقال تعالى: )وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون(
[ الأنعام: 3].
وقال تعالى: )وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما
تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب
مبين. وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل
مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون. وهو القاهر فوق عباده ويرسل
عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون. ثم ردوا إلى
الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين( [سورة الأنعام: 59-62].
وقال سبحانه: )ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم
ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور( [هود: 5].
(13)
تابع للمطلب الثاني:
العلم بشمول علم الله وإحاطته بكل شيء
إن الذي يضمر
عداوته لأي شخص، ولا يظهر ما يدل عليها لا يقدر أحد من البشر أن يكشف تلك
العداوة التي أضمرها، ولكن الله الذي خلق الصدور، عليم بذات الصدور، وقد ذكر في
سبب نزول الآية أن بعض المنافقين كانوا يقولون إذا أثنينا صدورنا واستخفينا في
بيوتنا واستغشينا ثيابنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا؟ فأنزل الله آية هود
السابقة [راجع كتاب الجامع لأحكام القرآن في تفسير الآية المذكورة].
تُرى أي قانون وأي سلطان في الأرض قادر على هذه الرقابة الملازمة المحيطة التي
لا يشذ عنها شيء؟
وقال سبحانه: )الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء
عنده بمقدار. عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. سواء منكم من أسر القول ومن
جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار( [الرعد: 8-10].
وقال تعالى: )وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا
عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في
السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين( [يونس: 61].
قال تعالى: )إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد
أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين. يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما
عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد. ألم تر أن الله يعلم ما في
السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو
سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا
يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم( [المجادلة: 5-7].
وقال تعالى: )رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده
لينذر يوم التلاق. يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم
لله الواحد القهار. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع
الحساب. وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم
ولا شفيع يطاع. يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. والله يقضي بالحق والذين
يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير( [غافر: 15-20].
ولو أراد الباحث تتبع الآيات المماثلة الدالة على كمال علم الله وإحاطته بكل
شيء، وأن كل ما يعمله الإنسان أو يقوله معلوم لله مكتوب على صاحبه وسيجزيه الله
عليه يوم القيامة، لو أراد الباحث تتبع ذلك لما وجد صفحة من صفحات القرآن تخلوا
من ذلك.
ولو أن البشر يربون على هذه الصفة وما تقتضيه لما كان في الأرض إلا الصلاح الذي
اقتضاه منهج الله، وهو الإحسان الذي سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عنه ليعلم الناس، فقال: ((أخبرني عن الإحسان، قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك
تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) [مسلم: (1/37)].
وإذا تقيّد الإنسان بمنهج الله بسبب اطلاعه على أن الله تعالى يعلم كل شيء لا
يخفى عليه شيء، كان مأموناً في كل تصرفاته التي يعلم أن عليه فيها رقيباً في كل
لحظة من لحظات عمره.
قال الأستاذ أبو الأعلى المودودي رحمه الله: "وأهم شيء وأجدره في هذا الصدد أنّ
الإيمان بلا إله إلا الله يجعل الإنسان مقيداً بقانون الله ومحافظاً عليه، فإن
المؤمن يكون على يقين بسبب اعتقاده بهذه الكلمة أن الله خبيراً بكل شيء، وهو
أقرب إليه من حبل الوريد، وأنه إن أتى بعمل في ظلمة الليل أو حالة الوحدة فإن
الله يعلمه، وأنه إن خطر بباله شيء غير جميل فإن علم الله محيط به، وأنه إن كان
من الممكن له أن يخفي أعماله عن كل واحد في الدنيا، فإنه لا يستطيع إخفاءها على
الله عزّ وجل، وأنه إن كان يستطيع أن يفلت من بطش أي كان، فإنه لا يستطيع أن
يفلت من الله عزّ وجلّ، فعلى قدر ما يكون هذا الإيمان راسخاً في ذهن الإنسان
يكون متبعاً لأحكام الله قائماً عند حدوده لا يجرؤ على اقتراف ما حرّم الله،
ويسارع إلى الخيرات والعمل بما أمر الله ولو في ظلمة الليل أو حال الوحدة
والخلوة، فإن معه شرطة لا تفارقه حيناً من أحيانه، وهو يتمثل دائماً أمام عينه
تلك المحكمة العليا التي لا يكاد الإنسان ينفذ من دائرة حسابها" [مبادئ الإسلام
ص:98، طبع الاتحاد الإسلامي للمنظمات الطلابية].
(14)
المطلب الثالث:
العلم بقدرة الله التامة على كل شيء
إن العلم بهذه
الصفة العظيمة، وهي قدرته على كل شيء يجعل الإنسان يخاف من أن يقدم على شيء من
الشر، أو يترك شيئاً مما أمر به من الخير، لعلمه بأن الله لا يغيب عنه شيء، ولا
يعجزه شيء وسيجازيه على علمه بما اقتضاه علمه.
وقد جمع الله تعالى بين علمه المحيط وقدرته التامة في قوله سبحانه وتعالى: )قل
إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض،
والله على كل شيء قدير( [آل عمران: 29].
والجاهل بصفة قدرة الله تعالى لا يبالي ما عمل من خير أو شر لأنه يظن أن لا
حياة بعد الموت، لعدم وجود قادر على إعادته بعد موته، ولذلك كثر في القرآن
الكريم إقامة الحجج على المشركين الذين أنكروا المعاد، والنصوص في ذلك كثيرة
جداً، قال تعالى: )أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه، بلى قادرين على أن نسوي
بنانه( [القيامة: 3-4] وقال تعالى: )فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق،
يخرج من بين الصلب والترائب، إنه على رجعه لقادر، يوم تبلى السرائر، فما له من
قوة ولا ناصر( [الطارق: 5-10] وقال تعالى: )أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة
فإذا هو خصيم مبين. وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم. قل
يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم. الذي جعل لكم من الشجر الأخضر
نارا فإذا أنتم منه توقدون( [يس: 77-80].
فقد جمع هنا بين كمال قدرته وإحاطة علمه.
وقال سبحانه: )أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم
وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه
كان عليما قديرا( [فاطر: 44].
فالتربية على العلم بقدرة الله وعلمه المحيطين بكل شيء، تكسب الفرد تقوى الله
وخشيته، فلا يقدم على ما لا يرضاه، وتكسبه كذلك الثقة في إثابته على فعل الخير
فيسعى للعمل بما يرضيه وترك ما يسخطه.
(15)
المطلب الرابع:
العلم بعدل الله الكامل
إن الله سبحانه
وتعالى أرسل رسله وأنزل كتبه، وهي تتضمن أخباراً وأحكاماً، فأخباره كلها صدق،
لا يتطرق إليها كذب، وأحكامه كلها عدل، لا يتطرق إليها ظلم، سواء منها ما تعلق
بالدنيا من إخبار عما يقع فيها من المغيبات، أم ما كلفه الله الناس من
التشريعات، أو ما يتعلق بالآخرة من إخبار عما أعد الله فيها جملة أو تفصيلاً،
وما يجازي به تعالى خلقه من أنواع الجزاء، فإن أخباره صدق عن الدنيا والآخرة،
وأحكامه عدل في الدنيا والآخرة، ولذلك قال سبحانه وتعالى عن نفسه: )وتمت كلمة
ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم( [الأنعام: 115].
قال الفخر الرازي رحمه الله في تفسير الآية السابقة: "إن كل ما حصل في القرآن
نوعان: الخبر والتكليف، أما الخبر فالمراد به كل ما أخبر الله عن وجوده أو
عدمه، وأما التكليف فيدخل فيه كل أمر ونهي توجه منه سبحانه على عبده، وإذا عرفت
انحصار مباحث القرآن في هذين القسمين، فنقول: قال تعالى: )وتمت كلمة ربك صدقاً(
إن كان من باب الخبر، وعدلاً إن كان من باب التكاليف، وهو ضبط في غاية الحسن"
[التفسير الكبير (13/161)].
وعدله سبحانه يقتضي أن يوفى كل عامل جزاء عمله، ويقضي لكل مظلوم من ظالمه، مهما
قل العمل أو كثر، وجل العلم أو دق، فإنه تعالى قد أمر بالعدل ونهى عن الظلم،
وأقام الحجة في الأرض ببيان ما هو عدل وما هو ظلم، ووعد أهل العدل بثوابه وتوعد
أهل الظلم بعقابه، قال تعالى: )إن الله يأمر بالعدل( [النحل: 90] وقال تعالى:
)قل أمر ربي بالقسط( [الأعراف: 29] وقال: )وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك ولكن
أكثرهم لا يعلمون( [الطور: 47].
ولهذا أنذر سبحانه عباده بحسابه العادل الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا
أحصاها، قال تعالى: )إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من
لدنه أجرا عظيما( [النساء: 40].
وقال تعالى: )ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما
رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون( [يونس: 54].
وقال تعالى: )ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون(
[يونس: 47] وقال تعالى: )إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون(
[يونس: 44] وقال سبحانه: )ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون
ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا
حاضرا ولا يظلم ربك أحدا( [الكهف: 49]. قال تعالى: )ونضع الموازين القسط ليوم
القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا
حاسبين( [الأنبياء: 47].
إن تربية الفرد على هذه الصفة للإله العالم القادر على كل شيء، هي أعظم تربية
تجعله يسعى إلى طاعة الله وترك معصيته، ومعاملة عباد الله بما شرّع الله دون
تعدٍ لحدوده.
وفي قوله سبحانه وتعالى: )فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة
شراً يره( [الزلزلة: آخر السورة] أجمع ما وعد الله فيه عباده المؤمنين أو توعد
به الكفرة المجرمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر أنواع الخيل،
وأنها لرجل أجر، ولرجل وزر، فسئل عن الحُمُر؟ قال: ((ما أنزل الله عليّ فيها
إلا هذه الآية الجامعة الفاذة)) وذكر آخر الزلزلة [البخاري (3/217) ومسلم
(2/681-682)].
(16)
المطلب الخامس:
العلم بصفات الله وأسمائه
العلم بصفاته
وأسمائه تعالى التي وردت في كتابه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتعبد له
بها، من أعظم ما يؤثر في سلوك العبد، فإن أسماءه وصفاته إنما ذكرت ليتعرف الله
بها إلى عباده، كما قال سبحانه وتعالى: )قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاً
ما تدعوا فله الأسماء الحسنى( [الإسراء: 110].
فالتربية بأسماء الله وصفاته والتعبد بها، هي أعظم ما يؤثر في العبد التأثير
الحسن، لأن كل اسم من أسماء الله يحمل من المعاني ما لو فقهها المؤمن وغرست في
نفسه، لازداد تقرباً إلى الله بطاعته وترك معصيته، ومن ذلك السعي في إيصال
الخير والإحسان إلى الناس والبعد عن الإساءة إليهم، كما قال ابن القيم رحمه
الله: "ولا يتصور نشر هذا المقام حق تصوره فضلاً عن أن يوفاه حقه، فأعرف خلقه
به وأحبهم له صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا أحصي ثناءً عليك أننت كما أثنيت
على نفسك)) [مسلم (1/352)] ولو شهد بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله، لاستدعت
منه المحبة التامة عليها، وهل مع المحبين محبة إلا من أثار صفات كماله، فإنهم
لم يروه في هذه الدار، وإنما وصل إليهم العلم بآثار صفاته وآثار صنعه فاستدلوا
بما علموه على ما غاب عنهم" [طريق الهجرتين وباب السعادتين ص:561-562].
وما ذلك إلا لتأثير تلك الأسماء في محصيها المتعبد بها لربه، لأنها ربّته
بمعانيها على طاعة الله وشكره، والبعد عن معاصي ربه، ومن ذلك أن يحسن إلى خلق
الله ويحب لهم من الخير ما يحب لنفسه، ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه.
ومعنى هذا أن يحفظها ويفهم معانيها التي أثرت فيه، وألفاظها وحدها لا تكفي من
حفظها ليتأثر بها التأثر الذي يريده الله.
ولكن ينبغي أن يعلم أن العلم بأسماء الله وصفاته لا يناله من ألحد فيهما بتعطيل
أو تشبيه أو تأويل اتباعاً للهوى وتحكيما للعقل، كما هو شأن من حاد عن طريقة
السلف الصالح من الإيمان بهما من غير تعطيل ولا تأويل ولا تمثيل على ضوء قوله
تعالى: )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير( [الشورى: 11] وقوله تعالى: ( ولا
يحيطون به علماً ) [طه:110].