(72)
المبحث الرابع
حقوق الأولاد
وفيه تمهيد وثلاثة
عشر مطلباً:
المطلب الأول: السعي في تحصينهم من الشيطان قبل وجودهم.
المطلب الثاني: العناية بهم في أرحام الأمهات
المطلب الثالث: إظهار السرور بهم عند ولادتهم
المطلب الرابع: ذكر الله في آذانهم عند ولادتهم
المطلب الخامس: إشعارهم بالعناية بهم بغذائهم وتمرينهم عليه
المطلب السادس: اختيار الأسماء الحسنة لهم
المطلب السابع: إظهار شكر الله على وجودهم بالذبح عنهم والاحتفاء بهم.
المطلب الثامن: العناية بتنظيفهم وإزالة الأذى عنهم
المطلب التاسع: وجوب إرضاعهم حتى يستغنوا عن اللبن وكفالتهم حق يكبروا
المطلب العاشر: تعليمهم العلم النافع وتربيتهم على العمل الصالح
المطلب الحادي عشر: مراعاة أحوالهم واستعداداتهم وتوجيههم إلى ما يرغبون
المطلب الثاني عشر: تمرينهم على الحركة والعمل وتجنيبهم البطالة والكسل
المطلب الثالث عشر: إعفافهم بالنكاح عند الحاجة والمقدرة
تمهيد
إن حفظ النسل ضرورة
من الضرورات التي اتفقت عليها الأمم، وعنيت بها الشريعة الإسلامية عناية
فائقة، فرغبت في النكاح، وحذرت من الإعراض عنه والزهد فيه، وأحب الرسول صلى
الله عليه وسلم تكثير النسل، وحرم الإجهاض وقتل الأولاد، وحددت عقوبة في
الاعتداء على الأجنة في أرحام الأمهات.
وبين ما يعود على الآباء من الخير من أولادهم في الدنيا والآخرة، وذلك كله
وغيره دليل على مدى الاهتمام بالأولاد ومحبتهم، والاحتفاء بهم، ويترتب على
ذلك العناية بهم روحياً وعقلياً وبدنياً.
وقد فصل ذلك كله في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته المطهرة،
كما فصل في كتب الفقه في أبواب خاصة، وأفردت له مؤلفات في القديم والحديث.
[راجع الفصل الثالث من كتابنا: الإسلام وضرورات الحياة].
والمقصود هنا الإشارة إجمالاً إلى حقوق الأولاد، التي يكونون بها أعضاء آمنين
مأمونين يستقيم بهم كيان الأسرة وتقوى آصرتها، ويكونون لبنات متماسكة في بناء
الأمة الإسلامية الكبيرة.
المطلب الأول:
السعي في تحصينهم من الشيطان قبل ولادتهم.
إن عداوة إبليس لابن
آدم ممتدة، من حين حسد أبا البشر آدم عليه السلام، وتسبب في إخراجه هو وزوجه
حواء من الجنة، وهي مستمرة إلى أن تقوم الساعة، ولا يجد أي منفذ يلج منه
لإغواء الإنسان إلا ولجه.
لذلك أمر الله سبحانه وتعالى الناس بالحذر منه والالتجاء إلى الله من خطراته،
قال تعالى عن إصرار الشيطان على إغواء الإنسان بكل طريق: ((قال فأنظرني إلى
يوم يبعثون قال إنك من المنظرين، قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم
ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم
شاكرين). [الأعراف:14ـ17].
وأخبر سبحانه وتعالى أن الشيطان لا سلطان له إلا على من اتبعه ولم يعتصم
بالله منه، أما من اعتصم بالله منه، فإن الله يحصنه منه، قال تعالى: (فإذا
قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين
آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به
مشركون). [النحل:98ـ100، وراجع خطر الشيطان على الإنسان ووسائل مجاهدته في
كتابنا: الجهاد في سبيل الله: حقيقته وغايته (1/392ـ421)].
ومن فضل الله تعالى على المسلم أن بين له وسائل الاعتصام من الشيطان في
الكتاب والسنة، في كل مجال من مجالات حياته: في مأكله ومشربه، ونومه ويقظته،
ودخوله وخروجه وكل تصرفاته، وأهم وسيلة لوقاية المؤمن من الشيطان، هي ذكر
الله تعالى، كما قال تعالى: ((إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان
تذكروا فإذا هم مبصرون)) [الأعراف(201)] والمراد بالتذكر أن يذكر أن الله
تعالى معه مطلع على كل ما يأتي ويذر، ويرغب في عفوه ومغفرته وهدايته وثوابه،
ويرهب جبروته وقهره وعقابه...
ومن السباب التي يتخذها المؤمن لوقاية ذريته من الشيطان، ما أرشد الرسول صلى
الله عليه وسلم إليه الرجل إذا أراد أن يجامع أهله، أن يسمي الله ويستعيذ
بالله من الشيطان، ويطلب من الله أن لا يجعل له سبيلاً إلى ما يرزقه الله من
ولد في ذلك الجماع، وهي عناية من الله تعالى بالإنسان قبل خلقه أرشد إليها
أباه حتى يُخلَق مولوداً سوياً سليماً من آفات الجسد وآفات القلب، كما في
حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أما إن
أحدكم إذا أتى أهله، وقال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما
رزقتنا، فرزقا ولداً لم يضره الشيطان. [البخاري (4/91) ومسلم (2/1058)].
فعلى المسلم أن يبدأ في السعي في تحصين ولده من هذا الوقت المبكر، الذي لا
يدري أيرزق فيه ولداً أم لا، وهو دليل على أن العناية بالولد من قبل الوالدين
تسبق وجوده.
(73)
المطلب الثاني
العناية بالأولاد في أرحام أمهاتهم.
إن المرأة التي
يطلقها زوجها ثلاثاً تبين منه، وتصبح أجنبية عنه، لا تجب لها عليه نفقة ولا
سكنى، على القول الراجح من أقوال العلماء رحمهم الله، إلا إذا كانت حاملاً
فإنها تجب لها النفقة بالإجماع. [راجع المغني لابن قدامة (8/232ـ233)].
قال تعالى: ((وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن)). [الطلاق:6].
وإنما وجبت على الزوج النفقة للحامل التي بانت منه من أجل ولده الذي لا سبيل
إلى الإنفاق عليه إلا عن طريق الإنفاق على أمه التي يتغذى منها.
قال ابن قدامة، رحمه الله: "ولأن الحمل ولده، فيلزمه الإنفاق عليه، ولا يمكنه
النفقة عليه إلا بالإنفاق عليها، فوجب كما وجبت أجرة الرضاع…" [المغني، كما
مضى، وراجع الجامع لأحكام القرآن (18/166ـ167)]. هذا في العناية به من حيث
النفقة.
ومن العناية به وقايته مما قد يؤثر على صحته، وهو في رحم أمه، ولذا أبيح
للحامل إذا خافت على جنينها أن تفطر في رمضان، كالمريض والمسافر، وقد أعفاها
بعض العلماء من الكفارة دون المرضع، قالوا: "لأن الحمل متصل بالحامل فالخوف
عليه كالخوف على بعض أعضائها". أما المرضع فـ"يمكنها أن تسترضع لولدها"
[المغني (3/149ـ150)]. وأدخلوها في قوله تعالى: ((وعلى الذين يطيقونه فدية
طعام مسكين)) [البقرة:184].
وقال ابن قدامة، رحمه الله، مؤيداً رأي من رأى أن عليها الكفارة كغيرها من
ذوي الأعذار: "ولنا قوله تعالى: ((وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين))،
وهما - أي الحامل والمرضع - داخلتان في عموم الآية. قال ابن عباس: "كانت رخصة
للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل
يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا" رواه
أبو داود وروى ذلك عن ابن عمر، ولا مخالف لهما من الصحابة... ". [المغني
(6/150) والجامع لأحكام القرآن (2/288)].
ومن العناية بالطفل وهو في رحم أمه تأجيل العقوبة التي تستحقها إذا كان ذلك
قد يؤثر على الولد أو تحقق أن العقوبة ستقضي عليه. فقد روى عمران بن حصين،
رضي الله عنه، أن امرأة من جهينة، أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم، وهي –
حبلى من الزنى، فقالت: يا نبي الله أصبت حداً، فأقمه علي، فدعا نبي الله صلى
الله عليه وسلم وليها، فقال: (أحسن إليها، فإذا وضعت فائتني بها ففعل، فأمر
بها نبي الله صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم
صلى عليها…). [مسلم (3/1334)].
وفي حديث آخر- في قصة الغامدية التي اعترفت بالزنى، وطلبت منه أن يقيم عليها
الحد -قال لها: (فاذهبي حتى تلدي) فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا
قد ولدته، قال: (اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه) فلما فطمته أتته بالصبي في يده
كسرة خبز، قالت: هذا يا رسول الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى
رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها… ".
[مسلم (3/1323) وراجع كتاب: الجنين والأحكام المتعلقة به في الفقه الإسلامي
لمحمد سلام مدكور، ص165ـ214ـ232].
المطلب الثالث:
طلبهم وإظهار السرور بهم.
إن الأولاد نعمة من
نعم الله سبحانه وتعالى، يهبها -كغيرها من النعم - لمن يشاء ويمسكها عمن
يشاء، ولولا إرادته تعالى وجُودُه، لما رُزق ذلك أحد، فإن الأسباب لا تنشئ
مسبباتها استقلالا.
قال تعالى: ((لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثاً
ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً، ويجعل من يشاء عقيماً، إنه
عليم قدير)). [الشورى:49ـ50].
ولما كان الأولاد من نعم الله التي تسر الوالدين، بشر بهم رسلُ الله من
الملائكة رسلَ الله من البشر، قال تعالى: ((ولقد جاءت رسلنا إبراهيم قالوا
سلاماً، قال سلام، فما لبث أن جاء بعجل حنيذ، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه
نكرهم وأوجس منهم خيفة، قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط، وامرأته قائمة
فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، قالت يا ويلتا ءألد وأنا عجوز
وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب، قالوا أتعجبين من أمر الله، رحمة الله
وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد)). [هود:69ـ73].
وقال تعالى: (ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً، قال إنا
منكم وجلون، قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني
الكبر فبم تبشرون، قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين، قال ومن يقنط من
رحمة ربه إلا الضالون). [الحجر: 51ـ56].
واستغاث نبي الله زكريا عليه السلام، أن يرزقه من يرثه فبشره الله بغلام، كما
قال تعالى: ((قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب
شقيا، وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا،
يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا، يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى
لم نجعل له من قبل سميا، قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد
بلغت من الكبر عتيا، قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك
شيئا)). [مريم: 4ـ9].
تأمل كيف يتطلع عباد الله الصالحون من الأنبياء والرسل وأهلوهم إلى نعمة
الأولاد، وكيف ينزل رسل الله من الملائكة بالتبشير بهم ويسمي الله بعضهم من
عنده: ((اسمه يحيى)).
ومن هنا كان الاستبشار بالولد والتبشير به من السنن الإلهية، ولا زال الناس -
إلا من فسدت فطرهم - يستبشرون بالأولاد ويسرون بهم،والتبشير إنما يكون بما
يسر، فمن حق الولد أن يسر به أبواه وأسرته، فهو ضيف عزيز جدير بالاحتفاء
والترحيب، وفرق بعيد بين ضيف يسر به ويحتفى به، وضيف يحس أهل الدار أنه ثقيل
عليهم مكروه عندهم، يتمنون عدم نزوله بهم، فإذا نزل تمنوا رحيله عنهم.
ولهذا ذم الله تعالى من تبرم من الأنثى واستثقلها، لأنه تعالى هو الذي وهبها،
كما وهب الذكر، والحياة لا تستمر إلا بالذكر والأنثى معاً، كما سبق في قوله
سبحانه وتعالى: ((يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا
وإناثا ويجعل من يشاء عقيما)). [سبقت قريباً في هذا المطلب].
قال تعالى: ((وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من
القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما
يحكمون)). [النحل: 58،59].
قال ابن القيم رحمه الله: "فقسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام اشتمل
عليها الوجود، وأخبر أن ما قدره بينهما من الولد فقد وهبهما إياه، وكفى
بالعبد تعرضا لمقته، أن يتسخط ما وهبه، وبدأ سبحانه بذكر الإناث فقيل جبرا
لهن لأجل استثقال الوالدين لمكانهن.
وقيل - وهو أحسن -:إنما قدمهن لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء
الأبوان، فان الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالبا، وهو سبحانه قد أخبر أنه
يخلق ما يشاء، فبدأ بذكر الصنف الذي يشاء ولا يريده الأبوان.
وعندي وجه آخر، وهو أنه سبحانه قدم ما كانت تؤخره الجاهلية في الذكر، وتأمل
كيف نكر سبحانه الإناث، وعرف الذكور؟ فجبر نقص الأنوثة بالتقديم، وجبر نقص
التأخير بالتعريف، فإن التعريف تنويه، كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان
الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم. ثم لما ذكر الصنفين معا، قدم الذكور
إعطاء لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير. والله أعلم بما أراد من ذلك.
والمقصود أن التسخط بالإناث من أخلاق الجاهلية، الذين ذمهم الله تعالى في
قوله: ((وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من
سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون)) [النحل
58،59]
وقال ((وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم)) [الزخرف
17 تحفة المودود في أحكام المولود صفحة:20 -21]
ومن دعاء عباد الرحمن الذين أثنى الله عليهم بعدة صفات: ((والذين يقولون ربنا
هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما)) [الفرقان:74].
فإذا كان واهب الولد هو الله إنعاما على أبويه به، وإذا كان رسل الله في
السماء يبشرون به رسله في الأرض فيفرحون ويستبشرون، وإذا كان عباد الله
الصالحون يتطلعون إلى أن يهب الله لهم الأولاد والذرية ويدعون بذلك، وإذا كان
لا يكتئب من بعض الأولاد - وهن الإناث - إلا أهل الجاهلية قديماً وحديثاً،
فإن هذا كله يثبت انشراح الصدور وابتهاجها وسرورها، عند أولياء الله المؤمنين
بما يهب لهم من الأولاد نعمة منه وتفضلا.
وعلى هذا فإن الولد الجديد يولد في أمن وطمأنينة، لأنه يقدم على أسرته وهم به
مسرورون مستبشرون، فيعنَوْنَ به غاية العناية.
المطلب الرابع
ذكر الله في آذانهم عند ولادتهم.
شرع الله تعالى على
لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يكون أول صوت يقرع آذان الأولاد عند
ولادتهم، هو ذكر الله الذي يغيظ عدو الله إبليس ويحصنهم منه، ويطمئنهم أن
الذي خلقهم في أرحام أمهاتهم وحفظهم فيها بالغذاء وغيره وهو الله تعالى، هو
معهم يرعاهم ويحفظهم، وهو أكبر من كل شيء وهو الإله الحق الذي لا يعبد سواه.
فالسنة أن يؤذن في آذانهم، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع ابن بنته
الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، فقد روى أبو رافع رضي الله عنه،
قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته
فاطمة بالصلاة" [أبو داود (5/333) أحمد (6/9) والترمذي 4/97) وقال: هذا حديث
حسن صحيح].
قال ابن القيم، رحمه الله: "وسر التأذين، والله أعلم، أن يكون أول ما يقرع
سمع الإنسان كلماته [أي كلمات الأذان] المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته،
والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار
الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها.
وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به وإن لم يشعر، مع ما في ذلك
من فائدة أخرى، وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حتى يولد،
فيقارنه للمحنة التي قدرها وشاءها، فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه أول أوقات
تعلقه به. وفيه معنى آخر، وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دين الإسلام وإلى
عبادته، سابقة على دعوة الشيطان، كما كانت فطرة الله التي فطر الناس عليها،
سابقة على تغيير الشيطان لها ونقله عنها ولغير ذلك من الحكم) [تحفة المودود
في أحكام المولود ص16].
قلت: وقد صح أن الشيطان يهرب من الأذان، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط
حتى لا يسمع التأذين، فإذا قُضِيَ النداء أقبل، حتى إذا ثُوِّب بالصلاة أدبر،
حتى إذا قضي التثويب، أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: "اذكر كذا، اذكر
كذا" لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى) [البخاري (1/151) ومسلم
(1/291)].
وقد مضى أنه يشرع للرجل إذا أتى أهله، أن يذكر الله ويدعوه، ليجنبهما
الشيطان، ويجنب الشيطان ما رزقهما، وأن ذلك لا يضره أبداً. [راجع المطلب
الأول من هذا المبحث].
المطلب الخامس
إشعارهم باستمرار العناية بغذائهم وتمرينهم عليه
إن الولد لما كان في
رحم أمه، كان يأتيه غذاؤه في دمائها عن طريق الحبل السري، وما كان في حاجة
إلى شيء يدخل في جوفه من فمه، وإذا خرج من رحم أمه انقطع عنه هذا الطريق
السهل المنظم بالتنظيم الدقيق بقدرة خالقه، فأصبح في حاجة إلى وسيلة أخرى غير
الحبل السري، الذي يقطع من سرته فور خروجه من رحم أمه.
والوسيلة الجديدة هي عن طريق فمه، ولهذا يتحول غذاؤه إلى ثديي أمه اللذين
هيأهما الله له تهيئة تناسب مصهما بفمه.
وليس المقصود هنا بيان هذا الأمر، وإنما المقصود ما شرع الله تعالى بهدي
رسوله صلى الله عليه وسلم من تحنيك الطفل عند ولادته بشيء من التمر بعد مضغه
وترطيبه، ولعل في ذلك -مع كونه سنة – ما يطمئن الطفل ويجعله آمنا على استمرار
غذائه، والعناية به، وبخاصة تحنيكه بالتمر الذي ترتفع فيه نسبة الحلاوة التي
يتلذذ بها الطفل، وفيه كذلك تمرين له على استعمال وسيلة غذائه الجديدة، وهي
المص بالفم ليألفها.
روت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أنها حملت بعبد الله ابن الزبير بمكة،
قالت: فخرجت وأنا متم، فأتيت المدينة فنزلت قباء، فولدت -بقباء، ثم أتيت به
رسول الله رسوله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم
تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه، ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم
حنكه بالتمرة، ثم دعا له وبرَّك عليه. [البخاري (6/216) ومسلم (3/1690)].
وكذلك حنك صلى الله عليه وسلم غلاماً لأبي طلحة، وسماه عبد الله [البخاري
(6/216) ومسلم (3/1689)].
قال الحافظ بن حجر، رحمه الله: "والتحنيك مضغ الشيء ووضعه في فم الصبي،
ودَلْك حنكه به، يصنع ذلك بالصبي ليتمرن على الأكل ويقوى عليه) [الفتح
(9/588)].
المطلب السادس
اختيار الاسم الحسن له
إن اللفظ الحسن ترتاح
له النفس ويستسيغه السمع، واللفظ السيئ لا يحب الإنسان أن يطرق سمعه ولا أن
ينطق به، وإن الاسم الذي يختاره أبو المولود وأسرته له يلتصق به، ويصبح علماً
عليه، وقد يصعب تغييره في كبره.
فإن كان الاسم حسناً محبباً، سر به المسمى عند كبره وأحب أن يدعى به، وسر به
غيره – أيضا - ممن يناديه به أو يسمعه، وإن كان قبيحاً ساءه سماعه حين يدعى
به، وساء من يدعوه ومن يسمع النداء به، والمسمى لا ذنب له في ذلك، لأنه لم
يختره لنفسه، لذلك كان المشروع أن يختار له أهله الاسم الحسن الذي يسره ويسر
غيره، وقد ظهر ذلك في عناية الله بتسمية بعض أنبيائه، وفي اهتمام رسول الله
صلى الله عليه وسلم بتسمية بعض الأطفال عند ولادتهم، أو تغيير بعض الأسماء
المكروهة.
قال تعالى لزكريا عليه السلام: ((إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من
قبل سميا)) [راجع المطلب الثالث من هذا المبحث].
وسمى الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم "أحمد" وبشر به عيسى عليه السلام
بهذا الاسم، كما قال تعالى: ((وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول
الله إليكم مصدقٌ لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه
أحمد)) [الصف:6].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاء إليه بالمولود، فيحنكه ويدعو له
ويسميه ويسأل عن اسمه، فإن رآه حسناً تركه، وإن لم يعجبه سماه، كما كان يغير
أسماء الكبار إذا كانت قبيحة.
فقد ولدت أسماء بنت أبي بكر، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنها وحنكه،
وصلى عليه (أي دعا له) وسماه عبد الله [راجع صحيح مسلم (3/1690) وما
بعدها..].
وكذلك فعل صلى الله عليه وسلم بابن أبي طلحة رضي الله عنهما، حنكه وسماه عبد
الله [سبق قريباً في آخر المطلب الخامس].
وجاء أبو أسيد رضي الله عنه بمولود له إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
"ما اسمه؟" قال: فلان، قال: "ولكن اسمه المنذر" [البخاري (7/117) ومسلم
(3/1692)].
وقدم جد سعيد بن المسيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: "ما
اسمك؟" قال: اسمي حَزْن، قال: (بل أنت سهل) قال: ما أنا بمغير اسماً سمَّانيه
أبي، قال ابن المسيب: فما زالت فينا الحزونة بعد" [البخاري (7/117) (و) وغير
اسم "عاصية" إلى جميلة" [راجع صحيح مسلم (3/1686)].
وأمر بعض أصحابه أن يسمي ابنه عبد الرحمن [البخاري (7/116ـ117) ومسلم
(3/1684)]. وروى ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن " [مسلم (3/1682)
والترمذي (5/132)].
وروى أبو الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم" [أبو داود
(5/236) وحسنه ابن القيم في تحفة المودود في أحكام المولود ص66 وقد بسط في
هذا الكتاب الكلام في هذا الباب فراجعه في ص 66ـ87].
(74)
المطلب السابع
إظهار شكر الله على هبتهم بالذبح عنهم والاحتفاء بهم
جرت عادة الناس أن
يحتفوا بالضيف، وكلما كان أكرم عندهم وأحب إليهم، زادوا في إكرامه، وهي سنة
قديمة، ظهرت في كرم إبراهيم عليه السلام حين قدَّم عجله المحنوذ السمين
لضيفه.
كما قال تعالى: ((هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا
سلاما، قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهلة فجاء بعجل سمين، فقربه إليهم قال
ألا تأكلون)) [الذاريات: 24ـ27].
وقال تعالى: ((ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاماً قال سلام، فما
لبث أن جاء بعجل حنيذ)) [هود:69].
وجاء في نصوص كثيرة، الحث على إكرام الضيف، بل منها ما دل على وجوب الضيافة،
وما زال الناس يثنون على الكريم المضياف [راجع كتابنا: الإسلام وضرورات
الحياة، الفصل الخامس ـ المبحث السابع: المثال الخامس: حق الضيافة].
وإن هذا الطفل الذي مر برحلة طويلة في عالم الرحم، في ظلمات ثلاث لا يرى نور
الشمس، ولا يرى أمه، وهو في بطنها، ولا يرى أحد من أسرته، وهم كذلك يعيش
بينهم ويأكل من طعامهم، ويشرب من شرابهم، وهم لا يرونه، لمدة تسعة أشهر في
الغالب وقد تزيد وقد تنقص.
إن مجيئه لينضم إلى الأسرة التي طال انتظارها له، لأحق بالإكرام من غيره من
الضيف الزائر ين الذين قد ألفوا الحياة وألفتهم، لأنه جاء ليكثر سواد الأسرة
ويكون لبنة في بنائها، يقويها ويتعاون معها على تحقيق أهدافها، التي من أهمها
تكثير النسل الذي يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على إكرام هذا الضيف، شكرا لله على قدومه،
كما في حديث سلمان بن عامر الضبي، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: (مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه
الأذى" [البخاري (6/217) وأبو داود (3/261)، والترمذي (4/97ـ97)].
وعن يوسف بن ماهك، أنهم دخلوا على حفصة بنت عبد الرحمن، فسألوها عن العقيقة؟
فأخبرتهم أن عائشة رضي الله عنها أخبرتها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أمرهم: "عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة" [الترمذي (4/96ـ97)
وقال: حديث عائشة حديث حسن صحيح].
وعن أم كرز الكعبية، رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم،
يقول: (عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة) [أبو داود (3/257) والترمذي (4/98)
وقال: هذا حديث حسن صحيح].
وعن سمرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (الغلام مرتهن بعقيقته،
يذبح عنه يوم سابعه، ويسمى، ويحلق رأسه) [الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وأبو
داود (3/259ـ260)]. وقد استدل بهذا الحديث من يرى وجوب الذبح عن الطفل.
قال ابن القيم، رحمه الله: "فالذبح عن الولد فيه معنى القربان والشكران
والفداء والصدقة وإطعام الطعام، عند حوادث السرور العظام، شكراً لله وإظهاراً
لنعمته التي هي غاية المقصود من النكاح، فإذا شرع الإطعام للنكاح الذي هو
وسيلة إلى حصول هذه النعمة، فلأن يشرع عند الغاية المطلوبة، أولى وأحرى، وشرع
بوصف الذبح المتضمن لما ذكرناه من الحكم.
فلا أحسن ولا أحلى في القلوب من مثل هذه الشريعة في المولود، وعلى نحو هذا
جرت سنة الولائم في المناكح وغيرها، فإنها إظهار للفرح والسرور، بإقامة شرائع
الإسلام، وخروج نسمة مسلمة يكاثر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمم يوم
القيامة، تعبد الله ويراغم عدوه " [تحفة المودود في أحكام المولود ص40 وهو
بيان لما ظهر له رحمه الله من حكمة الشارع في الأمر بالذبح عن الطفل].
المطلب الثامن:
العناية بتنظيفهم وإزالة الأذى عنهم.
شرع أن يحلق رأس
الطفل يوم سابعه، إيذانا بالعناية به وإزالة ما يؤذيه، بل وشرع التصدق عنه
بوزن شعر رأسه ذهباً أو فضة [راجع تحفة المودود ص57ـ59]، وكأن في ذلك إشارة
إلى فدائه بالمال وعدم التفريط فيه، وأن شعر رأسه الذي يؤذيه بقاؤه فيحلقونه
ليس رخيصاً عند أسرته، بل يوزن بالذهب الذي يحرص عليه الناس. كما شرع ختانه،
وهو من خصال الفطرة التي حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم، رحمه الله - بعد أن ذكر نصوص خصال الفطرة: "وقد اشتركت خصال
الفطرة في الطهارة والنظافة وأخذ الفضلات المستقذرة، التي يألفها الشيطان
ويجاورها من بني آدم، وله بالغرلة اتصال واختصاص" [تحفة المودود ص94].
وقال في موضع آخر- بعد أن بين أن الختان من محاسن الشرائع التي شرعها الله
لعباده -: "هذا مع ما في الختان من الطهارة والنظافة والتزيين، وتحسين الخلقة
وتعديل الشهوة، التي إذا أفرطت ألحقت الإنسان بالحيوانات، وإن عدمت بالكلية
ألحقته بالجمادات، فالختان يعدلها، ولهذا تجد الأقلف من الرجال، والقلفاء من
النساء، لا يشبع من الجماع... ولايخفى على ذي الحس السليم قبح الغرلة، وما في
إزالتها من التحسين والتنظيف والتزيين " [المرجع السابق ص111، والمراد
بالغرلة: غلفة الذكر من الجلدة التي تغطي الحشفة].
وفي هذا إشارة إلى العناية بنظافة الصبي وإزالة كل الأقذار والفضلات المؤذية
له، ما دام غير قادر على قيامه بإزالته بنفسه، وبهذا يأمن الطفل من الأوساخ
وما ينتج عنها من أوبئة وأمراض قد تودي بحياته.
المطلب التاسع
وجوب إرضاعه وكفالته حتى يستغني بنفسه.
قال تعالى:
((والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى
المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لا تكلف نفس إلا وسعها، لا تضار والدة
بولدها ولا مولود له بولده، وعلى الوارث مثل ذلك، فان أرادا فصالا عن تراضٍ
منهما وتشاور فلا جناح عليهما، وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم
إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف، واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير)
[البقرة: 233].
لقد كان غذاء الطفل في رحم أمه يأتيه بلا اختيار منها ولا اختيار منه، عن
طريق سرته التي ربط الله له بها حبلا يوصل إليه به ذلك الغذاء، وإذا كان على
أمه حق له في فترة الحمل، فهو أن تتناول الغذاء المناسب ولا تهمل نفسها
إهمالاً يؤدي إلى الإضرار به. كما أن على أبيه أن ينفق عليها نفقة تكفيها.
ولكنه عندما يتيسر سبيله، فيخرج من رحلة الرحم ليبدأ رحلة الأرض، ينقطع عنه
ذلك الغذاء الاضطراري، ويجب على أبويه أن يقوما بإرضاعه: الأم ترضعه من لبنها
الذي حوله الله إلى ثدييها، ليسهل على الطفل تناوله، والأب ينفق عليها
ويكفيها بما تحتاج إليه، فإن فقد أبويه أو أحدهما، وجب ذلك على من يقوم
مقامهما، إما من الأقارب، وإما من ولاة أمور المسلمين.
قال ابن حزم، رحمه الله: "والواجب على كل والدة، حرة كانت أو أمة، في عصمة
زوج أو في ملك سيد، أو كانت خلواً منهما، لحق ولدها بالذي تولد من مائه أو لم
يلحق، أن ترضع ولدها، أحبت أم كرهت، ولو أنها بنت الخليفة، وتجبر على ذلك،
إلا أن تكون مطلقة.
فإن كانت مطلقة، لم تجبر على إرضاع ولدها من الذي طلقها، إلا أن تشاء هي،
فلها ذلك، أحب أبوه أم كره، أحب الذي تزوجها بعده أم كره، فإن تعاسرت هي وأبو
الرضيع، أمر الوالد أن يسترضع لولده امرأة ولا بد، إلا أن لا يقبل الطفل غير
ثديها، فتجبر حينئذ أحبت أم كرهت، أحب زوجها - إن كان لها - أم كره، فإن مات
أبو الرضيع أو أفلس، أو غاب بحيث لا يقدر عليه، أجبرت الأم على إرضاعه، إلا
أن لا يكون لها لبن، أو كان لها لبن يضر به، فإنه يسترضع له غيرها ويتبع الأب
بذلك إن كان حياً وله مال... " [المحلى (1/335) وما بعدها، وقد أطال في ذكر
مذاهب الأئمة في وجوب رضاع الطفل على الأم، وبين أوجه استدلالهم، ورد ما خالف
ما ذهب إليه..].
وتجب كفالة الطفل حتى يبلغ أشده ويقدر على القيام بمصالحه، قال ابن قدامة،
رحمه الله: "كفالة الطفل وحضانته واجبة، لأنه يهلك بتركه، فيجب حفظه عن
الهلاك، كما يجب الإنفاق عليه وإنجاؤه من المهالك " [المغني (8/237)].
(75)
المطلب العاشر
تعليمهم العلم النافع، وتربيتهم على العمل الصالح.
سبق في مباحث الفصل
الأول، والفصل الثاني من الباب الأول، ما يغني عن إعادة مباحث العلم النافع
والعمل الصالح، وهي صالحة لهذا المطلب، فليراجعها من أراد.
لكننا هنا نشير إلى بعض الخلال التي يجب الحرص عليها في تربية الأطفال، إضافة
إلى ما مضى.
فمن ذلك تمرينه الدائم ومتابعته المستمرة على اختبار الجليس الصالح وملازمته،
وبعده عن جليس السوء ومخالطته، لما في صحبة الصالحين من قدوة حسنة تجعله
يزداد حباً للخير وتعاطيه، ونفوراً عن إتيان الشر ومقاربته، ولما في مجالسة
أهل السوء من محبتهم وتقليدهم في شرهم وفسقهم، والعادة جارية على سرعة التأثر
بأهل الشر أكثر من التأثر بأهل الخير، وبخاصة الأطفال، فإنهم سرعان ما يحاكون
من هو أكثر منهم في الشر.
وقد بين الله سبحانه وتعالى شدة ندم من يجالسون أهل السوء ومخالطتهم ويسيرون
في ركابهم، ويتركون مجالسة أهل الخير والسير في صراطهم المستقيم.
قال سبحانه وتعالى: ((ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع
الرسول سبيلا، ويا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً، لقد أضلني عن الذكر
بعد أن جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً) [الفرقان: 27- 29].
وذكر سبحانه وتعالى أن رؤساء الضلال والإضلال، يتبرأون يوم القيامة من
أتباعهم، وأن أتباعهم يتمنون لو يعودون إلى الحياة الدنيا، فيتبرأون من
رؤسائهم الذين أضلوهم، كما تبرأ رؤساؤهم منهم.
قال تعالى: (إذ تبرأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعوا ورأوا العذاب وتقطعت
بهم الأسباب، وقال الذين اتَّبَعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا
منا، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار) [البقرة:
166-167].
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا، للجليس الصالح وجليس السوء، للحث
على مجالسة الصالحين، والتحذير من مجالسة أهل الشر، كما روى أبو موسى الأشعري
رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الجليس الصالح والسوء
كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما
أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً
خبيثة". [البخاري (6/231) ومسلم (4/2026)].
ومن ذلك العناية بتعليمهم قراءة القرآن الكريم، وتحفيظهم إياه كله إن كانوا
قادرين على ذلك، وإلا فما تيسر منه، وترغيبهم في المداومة على قراءته وتدبره
وحبه، وأنه كلام الله تعالى يجب امتثال أوامره واجتناب زواجره، والعمل بما
فيه والإيمان بما أخبر به من الغيب في الماضي والمستقبل، وأن ما وافقه فهو
حق، وما خالفه فهو باطل.
وكذلك يعنى بتعليمهم سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وتحبيبها إليهم، وأن سنته
صلى الله عليه وسلم كالقرآن، يجب الإيمان بما أخبرت به والعمل بما شرعته، وأن
كل رأي خالفها فهو باطل، وأن الكتاب والسنة معصومان عن الزلل، بعيدان عن
الزيغ والضلال.
وأن الأئمة المجتهدين قاموا بخدمة هذا الدين، علماً وعملاً ودعوة وتعليماً
وجهاداً، وعلى رأسهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين يجب حبهم
واحترامهم وبغض من أبغضهم، وأنه لا يبغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلا أهل الزيغ والضلال.
وهكذا أتباع الصحابة من أئمة الإسلام الذين نصروا هذا الدين وحفظوه، بتعلمه
وتعليمه، والدعوة إليه، والذب عن سنته، ونشرها صحيحة نقية من طعن الطاعنين
وكذب المفترين، يجب حبهم وموالاتهم، والاستعانة بعلومهم ومؤلفاتهم، على فهم
مراد الله ورسوله، وأن صوابهم يغمر ما قد يحصل منهم من خطأ قليل، وهم مثابون
على كل حال: على الصواب لهم أجران، وعلى اجتهادهم الذي أخطأوا فيه أجر.
ومن أهم ما يجب أن يعنى به في تربية الأولاد: تعويدهم على الصدق في القول،
واجتناب الكذب، فإن الصدق يؤمن صاحبه، والكذب يلقي من اتصف به في المهالك،
ولا يؤتمن على كبير أو حقير، وكيف يأمن الناس الكاذب وفيه خصلة من خصال
النفاق؟!
ويجب أن يبين لهم مزايا الصدق وفضائله في الدنيا والآخرة، كما يبين لهم مضار
الكذب كذلك في الدنيا والآخرة.
وقد روى عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
(إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون
صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل
ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا) [البخاري (7/95) ومسلم (4/2012)].
وروى أبو هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (آية
المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) [البخاري (7/95)
ومسلم (1/78)].
ومن ذلك تمرينهم على أداء الشعائر التعبدية من صغرهم، حتى ينشأوا عليها
ويعتادوها، فلا يكونون مقصرين فيها إذا بلغوا رشدهم، وأصبحوا مكلفين بالخطاب
مباشرة يعاقبون على تركها.
فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولي الصبي أن يعلمه الصلاة لسبع، ويضربه
عليها لعشر، كما روى عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين، واضربوه
عليها ابن عشر" [الترمذي (2/259) وقال:… حديث حسن صحيح، وأبو داود
(1/332ـ333) وقال المحشي عليه: "وفي المجموع النووي (3/10): حديث سبرة
صحيح.."].
وقد رفعت امرأة صبياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ألهذا حج؟
قال: (نعم، ولك أجر) [مسلم (2/974) وراجع التمهيد لابن عبد البر (1/94)].
وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرنون أبناءهم على الصوم وهم
صغار، كما في حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء، قالت: "أرسل رسول الله صلى الله
عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: (من كان أصبح
صائماً فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطراً، فليتم بقية يومه)
فكنا بعد ذلك نصوم ونصوِّم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله، ونذهب إلى
المسجد، فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه
عند الإفطار"وفي رواية: "ونضع لهم اللعبة من العهن فنذهب به معنا، فإذا
سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم " [مسلم (2/798)
والرواية الثانية تبين المعنى المراد من الأولى، أي أعطيناهم يلهون بها حتى
يحين الإفطار].
ولا شك أن تنشئة الصبي بالتعليم والتربية الإيمانية والعبادية، تعده ليكون
إنسانا صالحا يقوم بحق الله وحق نفسه وحقوق أسرته وحقوق المجتمع كله، وبذلك
يأمنه الناس على أنفسهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم، لأن نشأته على طاعة الله
وطاعة رسوله، وقيامه بالعبادات التي يقدر على أدائها من صغره تورثه التقوى،
والتقوى هي سبيل الأمن.
ومن ذلك تدريبه خلال الكمال، كالإيثار، وأن يحب لغيره ما يحب لنفسه من الخير،
وأن يعطي ولا يأخذ، وأن يستشعر مسؤوليته في تصرفاته، بحيث يجعله ذلك يقدم على
ما ينفعه أو ينفع غيره، ويحجم عما يضره أو يضر غيره.
ولو أن الأسر اهتمت بتربية أبنائها وتعليمهم وتنشئتهم على طاعة الله وطاعة
رسوله، مع الإخلاص والتجرد لله، لكان لأولاد المسلمين شأن في نشر الخير
والطمأنينة بين البشر في مشارق الأرض ومغاربها، كما كان لأسلافهم في العصور
المفضلة.
(76)
المطلب الحادي عشر
مراعاة أحوالهم واستعداداتهم وتوجيههم إلى ما يرغبون فيه
من أوجه الاكتساب والأعمال المباحة.
إن الواجب الأساسي
الذي لا يجوز التفريط فيه، هو تعليم الأولاد أولاً فروض العين التي لا يعذر
أحد بتركها، وتلك هي أصول الإيمان وأركان الإسلام، وواجباته، كالطهارة
والصلاة والصيام والحج وبر الوالدين ونحوها.
فإذا ما علم الصبي ذلك وربي عليه، نظر وليه في تصرفاته ورغباته، فإن وجده
مقبلاً على علوم الإسلام راغباً في حفظها والتضلع منها، فعليه أن يهيئ له
الفرصة بالمعلم الكفء والكتاب، والكفاية لكل حاجاته، ليفرغه لهذا الغرض
العظيم، حتى يصبح من علماء الإسلام ودعاة الحق.
وإن وجده مقبلاً على غير ذلك من الصناعات والمهن الأخرى المباحة غير الدنيئة،
وجهه إلى ما يراه راغبا فيه وأعانه بسبلها التي يتمكن بها من تحصيلها، ولا
ينبغي أن يجبره على علم لا رغبة له فيه ولا يرى عنده استعداداً له، فإن ذلك
يعوقه ويحرمه من سلوك الطريق الذي خلق مهيئاً له.
قال ابن القيم، رحمه الله: "ومما ينبغي أن يعتمد حال الصبي وما هو مستعد له
من الأعمال ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له، فلا يحمله على غيره، ما كان
مأذونا فيه شرعا، فإنه إن حمل على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه، وفاته ما
هو مهيأ له.
فإذا رآه حسن الفهم صحيح الإدراك، جيد الحفظ واعياً، فهذه من علامات قبوله
وتهيؤه للعلم، لينقشه في لوح قلبه، ما دام خالياً، فإنه يتمكن فيه ويستقر
ويزكو معه، وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعد للفروسية وأسبابها، من
الركوب والرمي واللعب بالرمح، وأنه لا نفاذ له في العلم ولم يخلق له، مكنه من
أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنها أنفع له وللمسلمين.
وإن رآه بخلاف ذلك وأنه لم يخلق لذلك، ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع
مستعداً لها قابلاً لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس، فليمكنه منها.
هذا كله بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه، فإن ذلك ميسر على كل أحد، لتقوم
حجة الله على العبد، فإن له على عباده الحجة البالغة، كما له عليهم النعمة
السابغة [تحفة المودود ص144ـ145 وراجع كتاب تنظيم الإسلام للمجتمع، لأبي
زهرة، ص182، طبع دار الفكر العربي.].
المطلب الثاني عشر:
تمرينهم على الحركة والعمل
وتجنيبهم البطالة والكسل.
إن خلو وقت الإنسان
من الحركة النافعة والعمل المفيد من أعظم الخسران، إذ يضيع عمره أو جزء منه
في غير ما خلق له، إما بعدم قيامه بشيء مفيد، كأن يخلد إلى الراحة دون حراك،
وإما أن يتحرك فيما يعود عليه وعلى المجتمع بالضرر، وهذا هو الغالب، ولذا حذر
الله تعالى من إضاعة العمر في غير فائدة، وأخبر تعالى عن غبن وندم من أضاع
عمره في غير عمل صالح.
قال جل وعلا: ((والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف
عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور، وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا
غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا
فما للظالمين من نصير)) [فاطر: 36ـ37].
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كثيرا من الناس مغبونون في نعمتين عظيمتين
إحداهما: الفراغ، روى ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله
عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) [البخاري
(7/170)].
كما أخبر صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى يسأل ابن آدم عن عمره فيم أفناه
يوم القيامة، كما في حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم
أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن - ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم
أبلاه " [الترمذي (4/612) وقال: هذا حديث حسن صحيح].
وقال ابن القيم رحمه الله: "ويجنبه الكسل والبطالة والدعة والراحة، بل يأخذه
بأضدادها، ولا يريحه إلا بما يجم نفسه وبدنه للشغل، فإن للكسل والبطالة عواقب
سوء ومغبة ندم، وللجد والتعب عواقب حميدة، إما في الدنيا، وإما في العقبى،
وإما فيهما، فأرْوَح الناس أتعبُ الناس، وأتعب الناس أرْوح الناس، فالسيادة
في الدنيا والسعادة في العقبى، لا يوصل إليها إلا على جسر من التعب " [تحفة
المودود ص143].
وإن الذي يتأمل حال كثير من الشباب المسلمين في هذا الزمان، وما منوا به من
البطالة والكسل والراحة الجالبة للميوعة والترهل، بسبب الفراغ، الذي لم
يملئوه بما يعود عليهم وعلى مجتمعاتهم بالخير والنفع العام، وعدم استغلاله
الفراغ دليل على عدم شكر الله على هذه النعمة، والأدهى من ذلك أن يملئوه
باللهو واللعب والمتع المباحة أو المحرمة.
حتى أصبح كثير من شبابنا مثل القطعان الحيوانية الضارة لأمن الناس على
أموالهم ودمائهم وأعراضهم، الذي يتأمل ذلك يبدو له جلياً ما عنته نصوص القرآن
والسنة وأقوال العلماء من التحذير من الفراغ والبطالة والكسل، فلا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم. [يراجع كتابنا الجهاد في سبيل الله – حقيقته
وغايته (1/320 وما بعدها]
المطلب الثالث عشر
إعفافهم بالنكاح عند الحاجة والمقدرة
وإذا كان الولد
محتاجاً إلى النكاح، والأب أو من يقوم مقامه قادرا على تزويجه، لزمه ذلك، لما
فيه من تحصينه وإعفافه عن الوقوع في الحرام.
قال ابن قدامة رحمه الله: "ويلزم الرجل إعفاف ابنه، إذا احتاج إلى النكاح،
وهذا ظاهر مذهب الشافعي... " [المغني (8/216)].
وكذلك يجب أن يزوج ابنته التي بلغت سنا تحتاج فيه إلى النكاح لإعفافها، وأن
يلتمس لها الزوج الصالح، فلا فرق بين الابن والبنت في وجوب إعفافهما.
وبهذا يتبين عناية الإسلام بحقوق الأولاد التي إذا قام بها الآباء، كانوا بها
صالحين آمنين مأمونين يحققون مع الأسرة مجتمعا صغيرا متماسكا، ومن الأسر
يتكون المجتمع المسلم كله.